وقال الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين:
وحدُّ الحلم ضبط النفس عند هيجان الغضب، وهذا يكون عن باعث وسبب، وأسباب الحلم الباعثة على ضبط النفس عشرة:
أولها: الرحمة للجاهلين، وذلك من خيرٍ يوافق رقة، والمطلوب رحمة الناس، والأوكد من جهل منهم حتى يعلم.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه لرجل أسمعه كلاماً:
" يا هذا لا تغرقنَّ في سبنا، ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عزّ وجلّ فيه.
وشتم رجل الشعبي فقال:
إن كنتُ كما قلتَ فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلتَ فغفر الله لك.
واغتاظت عائشة رضي الله عنها من خادم لها، ثم رجعت إلى نفسها فقالت: "لله درُّ التقوى، ما أعظمها. وتناست..
واشترى رجل من أهل دمشق قطيفة فلم تعجبه، فحلف ليضربنَّ بها رأس الأمير معاوية، فأتاه وأخبره بما حلف، فقال معاوية الحليم: "أوفِ بنذرك وليرفقِ الشيخُ بالشيخ.
ثانيها: القدرة على الانتصار وهذا ناتج عن سعة الصدر والثقة بالنفس، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"وإذا قدرتَ على عدوّك فاجعل العفو شكراً للقدرة عليه.
وقال حكيم فأصاب: ليس من الكرم عقوبة من لا يمتنع من سطوتك.
وقال أحد البلغاء درّة من الدرر، أحسنُ المكارم:
أ - عفو المقتدر، ب- وَجودُ المفتقر.
ثالثها: الترفّع عن مجاراة المخطئ، وهذا يدل على شرف النفس، وعلو الهمة، فقد قالت الحكماء: شرف النفس أن تحمل المكاره كما تحمل المكارم.
وقد قيل: إن الله تعالى سمى يحيى عليه السلام سيداً لحلمه.
ولله در الشاعر الذكي حين قال معبراً عن الفكرة خير تعبير:

لا يبلغ المجد أقوامٌ وإن كرُموا *** حتى يَذلوا –وإن عزّوا- لأقوام
ويُشتَموا فترى الألوان مسفرةً *** لا صفـحَ ذلٍّ ولكنْ صفحَ أحلام
رابعها: الاستهانة بالمسيء لا عن كبر وإعجاب بالنفس، إنما هو نأي عن منافس لا يساويك قدراً.
حكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق جلس يوماً لعطاء الجند وأمر مناديه أين عمرو بن جرموز –وهو الذي قتل أباه الزبير- فقيل له: أيها الأمير إنه قد تباعد في الأرض، فقال: أو يظنّ الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله، فليظهر آمناً ليأخذ عطاءه وافراً، لكن البعض عدَّ ذلك مستحسن الكبر.
- وقال أحدهم في المعنى ذاته:

أو كلما طنَّ الذباب طردتُه *** إنّ الذباب إذاً عليَّ كريمُ
وأكثرَ رجلٌ من سبّ الأحنف –وهذا سارت الركبان بذكر حلمه- وهو لا يجيبه، فقال: والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه.
ومثله ابن هبيرة فقد أسمعه رجل ما ساءه، فأعرض عنه، فقال الرجل له: إياك أعني. فقال ابن هبيرة: وعنك أُعرض.
وقال الشاعر عمرو بن علي أبياته المشهورة:
إذا نطق السفيه فـلا تجبه *** فخـير مـن إجابته السكوتُ
سكتُّ عن السفيه فظنّ أني *** عييت عن الجواب وما عييتُ
خامسها: الاستحياء من جزاء الجواب، وهذا من صيانة النفس، وكمال المروءة.
قال أحد الحكماء موضحاً هذا: احتمال السفيه خير من التحلي بصورته، والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته.
وقال بعض الأدباء: ما أفحشَ حليمٌ، ولا أوحشَ كريم.
أما لقيط بن زرارة الشاعر فقد أعلن أنه لا يحب الفحش ولا يجاري فيه أصحابه.

وقل لبني سعد فمالي وما لكم *** ترقّون مني ما استطعت وأُعتِقُ
أغـرَّكمو أنـي بأحسن شيمة *** بصيرٌ، وأنـي بالفواحش أطرق
وإن تك قـد ساببتني فقهرتني *** هنيئاً، مريئاً، أنت بالفحش أحذَقُ
سادسها: التفضّل على المسيء وتآلفه، واستيعابه.
وقصة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي أعطاه الرسول فلم يرض لزعمه أنه قليل فغضب الصحابة منه لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه إلى بيته وأجزل له حتى رضي وأمره أن يعلن أمام الصحابة أنه رضي، وقرّت عينه فبعد أن قال: ما أوفيت وما أجزيت قال: لقد أجزيت وأوفيت فجزاك الله من كريم خيراً، فكان قوله صلى الله عليه وسلم سبباً في دخول الأعرابي الإسلام.
وهذا الإسكندر قيل له: إن فلاناً وفلاناً ينقصانك ويثلبانك فلو عاقبتهما. فقال: هما بعد العقوبة أعذر في تنقصي وثلبي، فكان هذا تفضلاً منه وتآلفاً.
وقد حكي عن الأحنف ابن قيس أنه قال: ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره ثلاث خصال:
أ – إن كان أعلى مني عرفتُ له قدره.
ب – وإن كان دوني رفعتُ قدري عنه.
جـ - وإن كان نظيري تفضلت عليه.
وأخذه الخليل فنظمه شعراً وأحسنَ فقال:

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب *** وإن كثُـرتْ منه إلـيَّ الجرائمُ
فـما الـناس إلا واحـد من ثلاثة *** شريف ومشروف ومثـل مقاوم
فـأما الـذي فـوقي فأعرف قدره *** وأتـبع فـيه الحقّ والحقُّ لازم
وأمـا الـذي دوني فـأحـلم دائباً *** أصون به عرضي وإن لام لائم
وأمـا الـذي مثلي فإن زلّ أو هفا *** تفضّلتُ، إن الفضل بالفخر حاكم
سابعها: قطع دابر الخصام، وهذا من الحزم.فقد حكي أن رجلاً قال لضرار بن القعقاع، والله لو قلتَ واحدةً لسمعت عشراً، فقال ضرار: والله لو قلتَ عشراً ما سمعتَ واحدة.
قال أحمد الحكماء: في إعراضك صونُ أعراضك، ولله درّه من حكيم!
وقال أحد الشعراء:
قل ما بدا لك من زور ومن كذب *** حِلمي أصمُّ، وأذني غيرُ صماء
وسأل علي رضي الله عنه عامرَ بن مرّة الزهري:
- من أحمقُ الناس؟
قال: مَنْ ظنَّ أنه أعقلُ الناس.
قال: صدقتَ، فمَنْ أعقلُ الناس؟
قال: من لم يتجاوز الصمتَ في عقوبة الجهال.
وقال هذا المعنى أحد الشعراء:

وفي الحلم ردعٌ للسفيه عن الأذى *** وفي الخَرق إغراء فلا تك أخرقا
فتـندمَ إذا لا ينفـَعَنْـكَ ندامـةٌ *** كما ندم المغبون لما تـفـرّقـا
ثامنها: الخوف من العقوبة على الجواب، وهذا من ضعف النفس، لا من الحلم. وربما أوجبه الرأيُ، واقتضاه الحزم.
وقد قيل: الحلم حجاب الآفات. والرفق في التعامل مع الأخرق حلم ونجاة.
تاسعها: الرعاية ليدٍ سالفة، وحرمة لازمة، وهذا من الوفاء، وحُسنِ العهد، وكمال المروءة، وقد قيل: أكرمُ الشِّيَم أرعاها للذمم. وقد قال الشاعر فأحسن:
إن الوفاء على الكريم فريضـة *** واللؤم مقرون بذي الإخـلاف
وترى الكريم لمن يعاشر منصفاً *** وترى اللئيم مجانب الإنصاف
وقال غيره فأجاد:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكتَه *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمرَّدا
عاشرها: المكر وتوقُّع الفرص الخفيّة، وهذا من المكر والدهاء. وقد قيل: من ظهر غضبه، قلَّ كيدُه.
وقال أحد الحكماء: غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله.
وقال أحدهم: إذا سكتَّ عن اللئيم ضيَّعتَ عليه فرصته.
قال أحد الشعراء:

ولَلْكفُّ عن شتم اللئيم تكرّماً *** أضرُّ له من شتمه حين يُشتَمُ
وعلى الرغم من أن الحلم فضل كله إلا أنَّ بعض ما ذكر يدخل في باب الذلِّ ولئن كان تملُّكُ النفس أن تغضب وأن تهيج حسناً إن عدم الغضب حين يسمع الإنسان ما يُغضب، يعتبر من ذل النفس وقلّة الحميّة، وقد قالت الحكماء:
ثلاثة لا يُعرفون إلا في ثلاثة مواطن:
أ – لا يُعرف الجواد إلا في العسرة
ب – ولا يعرف الشجاع إلا في الحرب
ج – ولا يعرف الحليم إلا في الغضب
قال أحد الشعراء:
ليست الأحلام في حال الرضا *** إنما الأحلام في حال الغضب
وقال شاعر آخر:
مَنْ يدّعِ الحِلم أغضِبْه لتعرفه *** لا يُعرف الحِلْمُ إلا ساعة الغضب
ولعلَّ من المقبول أن يجتمع في قوم ذوو أحلام وجهال، فقد يكمل بعضهم بعضاً، وقد أنشد النابغة الجعدي أمام النبي صلى الله عليه وسلم:

ولا خير في حلم إذا لم يكن له *** بوادرُ تحمي صفْوَه أن يُكدَّرا
ولا خيرَ في جهل إذا لم يكن له *** حليم إذا ما أوردَ الأمرَ أصدرا
فلم ينكر صلى الله عليه وسلم قوله عليه.
ومن فقد الغضب في الأشياء المغضِبة حتى استوى حالتاه قبل الإغضاب وبعده، فقد عدم من فضائل النفس الشجاعة، والأنفة والحميّة والغيرة والأخذ بالثأر لأنها خصال مركبة من الغضب، فإذا عدمها الإنسان هان بها، ولم يكن لباقي فضائله في النفوس موضع، ولا لوفور حلمه في القلوب موقع.
قال المنصور: إذا كان الحلم مفسدة كان العفو مَعْجَزَة
وقال أحدهم: العفو يفسد من اللئيم بقدْر إصلاحه من الكريم.
وقال عمرو بن العاص: أكرموا سفهاءكم فإنهم يقونكم العار والشنار، واتفق معه مصعب بن الزبير حين قال: ما قلَّ سفهاءُ قوم إذا ذلّوا.
وفي هذا قال أبو تمام الطائي:
والحربُ تركب رأسها في مشهدٍ *** عَدْلُ السفيه به بألف حليم
وليس هذا القول إغراءً بالغضب والانقياد إليه، بل دعوة إلى التوازن بين الحلم والغضب على أن يكون الحلم قائداً وله المبادرة. قال الشاعر:
إذا أنت جاريتَ السفيه كما جرى *** فأنت سفيه مثله غيرُ ذي حلم
ولا تعضبَنْ عرض السفيه وداره *** بحِلم، فإن أعيا عليك فبالصرم
فيرجوك تارات ويخشاك تـارة *** ويأخذ فيما بين ذلك بالحـزم
فإن لم تجد بدّاً من الجهل فاستعن *** عليه بجهّال فذاك من العـزم
ومن عَزَب عنه الحلم فاتقاد لغضبه ضلَّ عنه وجه الصواب فيه، وضعف رأيه عن خبرة أسبابه ودواعيه حتى يصير بليد الرأي، ضعيف الفهم، مقطوع الحجة، قليل الحيلة، وقد يكون صاحب حقٍّ فيضيعه بغضبه مع ما يناله من أثر الغضب في جسمه ونفسه حتى يصير أضرَّ عليه مما غضب له. وقد قال أحد الحكماء: مَنْ كثر شططه، كثر غلطه.
وروي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه:
- ما الذي يباعدني من غضب الله عزّ وجل؟ قال: أن لا تغضب.
وروي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حسن