منذ /11-17-2012, 09:46 PM
#1
|
|
 |
|
 |
|
عام جديد – علي الطنطاوي رحمه الله
لما قعدت أكتب هذا الفصل ، لم يكن في ذهني شيء عن الموضوع الذي أكتب فيه ،
ولكني نظرت في التقويم المعلق بالجدار فوجدت الموضوع .
الموضوع (أول المحرَّم) .
أفيمر بكم أول المحرم ، كما يمر غيره من الأيام ،
وفي صبيحته ولد عام ، وفي ليلته قضى عام ؟
يجتاز المسافر مرحلة من الطريق فيحطّ الرحال ، ويقف ليستريح ،
فيتلفت وراءه ليرى كم قطع وينظر أمامه ليبصر كم بقي .
والتاجر تتهي سنته ، فيقيم موازينه ويحسب غلته ، ليعلم ماذا ربح وماذا خسر .
وهذه (محطة) جديدة ، نقف فيها ونحن نسير على طريق الحياة وسنة أخرى تمضي من العمر ،
أفلا نقف ساعة نفكر ونذكر ونحسب ونعتبر ؟
نحن اليوم في أول المحرم من سنة ست وثمانين وثلاث مئة وألف ،
ننظر إليه في الفجر ، فنراه يوماً طويلاً يمتد أمامنا ، نستطيع أن نعمل فيه ما نشاء ،
نستمتع فيه (إن أردنا) بدنيانا ، ونحمله ما نريد حمله من الزاد إلى أُخرانا ،
فإذا أمسى المساء وذهب اليوم لم نعد نستطيع أن نستفيد منه ولا أن نستمتع فيه .
نظنه باقياً لنا ، فـ (نُبَذِّر) في دقائقه ، كما يبذر المسرف في ماله ،
ونضيع ساعاته ، ولكننا لا نجده حتى نفقده .
إنه لا يكاد يبدأ حتى ينتهي ثم يمضي ، فلا يعود أبداً .
اذكروا الآن أول يوم من المحرّم سنة خمس وثمانين ، لقد كنا نراه ونحن نستقبله طويلاً ،
وكنا نقدر أن نصنع فيه خيراً كثيراً ، فأين هو منا اليوم ؟
وأين الأول من المحرم سنة ربع وثمانين ؟
وأين أوائل المحرمات التي مرت بنا ، أو مررنا نحن بها من قبل ؟
ماذا بقي منها في أيدينا ؟
تمضي السنة وتجيء أخرى بعدها ، فمن لم يعمل خيراً فيها ، عمله في التي تليها .
إن فاتك عمل الخير في النهار ، فعندك الليل (خِلْفَةٌ) منه ، فاعمل الخير فيه .
مواسم متتابعة ، إن أضعت الموسم فلم تزرع فيه ، فازرع الذي يليه .
وإن رسبت في الامتحان في دورة حزيران ، فعندك دورة أيلول .
هي خِلْفَةٌ لك ما بقيت حياً ، ولكن هل تعلم كم تبقى حياً ؟

ينقضي العام فتظن أنك عشته ، وأنت في الحقيقة قد مِتّه ،
لا تعجبوا من هذا المقال ودعوني أوضح الفكرة بالمثال .
أنت كالموظف الذي منح إجازته السنوية ، شهراً كاملاً ،
إذا قضى فيها عشرة أيام يكون قد خسر منها عشرة أيام فصار الشهر عشرين ،
فإذا مر عشرون صار الشهر عشراً ، فإذا تم الشهر انقضت الإجازة فكأنها لم تكن .
أتظنون أني (أتفلسف) ؟
لا والله ، بل أصف الواقع .
نحن كلما ازداد عمر الواحد منا سنة في العدِّ ، نقصت من عمره سنة في الحقيقة ،
حتى ينفد العمر ، ويأتي الأجل ، ونستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت .
فتحت كتابي (من حديث النفس) فقرأت فيه فصلاً نشرته في العدد الممتاز من مجلة الرسالة في مطلع سنة 1938 ،
عنوانه (على أبواب الثلاثين) ،
لو تصورت يومئذ أني سأقرأه في مطلع سنة 1966 ،
لتراءى لعيني دهر طويل ثمان وعشرون سنة ،
أنظر إليها الآن ، بعد ما مرّت ، فأراها كأنها يوم وليلة .
ولو نظرت الآن إلى ما بعد ثمان وعشرين سنة إلى سنة (1994) لرأيتها بعيد جداً ،
ولكن من يقرأ هذا الفصل يومئذ سيرى سنتنا هذه كأنما كانت بالأمس .
فنحن نوسع المستقبل بالأمل .

وما هذا المستقبل الذي نسعى إليه ، ونكدّ من أجله ؟
لمّا كنت طالباً كان مستقبلي في نيل الشهادة ،
فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة .
فلما وصلت إليها صار المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار ، وإنسال الولد ،
فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحفَدة ،
صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدخر ،
وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات ، فلما تم لي بفضل الله ذلك كله ،
لم يبق لي مستقبل أفكر فيه ، إلاّ أن ينوِّر الله بصيرتي ،ويريني طريقي ،
فأعمل للمستقبل الباقي ، للآخرة ، وإني لفي غفلة منها .
فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له ،
إنه يوم لن يأتي أبداً لأنه إن جاء صار (حاضراً)
وطفق صاحبه يفتش عن (مستقبل) آخر ، يركض وراءه .
إنه (كما قلت مرة) مثل حزمة الحشيش المعلقة بخشبة
مربوطة بسرج الفرس تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها ،
وهي تعدو معه فلا يدركها أبداً .
إن المستقبل الحق في الآخرة ،
فأين منا من يعمل له ؟
بل أين من يفكر فيه ؟
وقد يكون هذا الذي أقوله (فلسفة) ،
ولكنها فلسفة واقعية ،
إنها حقائق لا يفكر فيها أحد منها .
نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة ، همُّه الغرفة الجميلة ، أو المقعد المريح ،
يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام ،
ويتصفح الجرائد والمجلات وينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد
ولكن هذا كله لأيام في السفر ، وأيام السفر معدودة ،
أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه ؟
أما كان أنفع له لو تحمَّل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة ،
ووفر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة ؟
أم قد شغلته متعة السفر عن التفكير في سبب السفر ،
وجمال الطريق عن غاية الطريق ؟
الحياة سفر ، فكم من الناس يسأل نفسه لِمَ السفر ؟وإلى أين الرحيل ؟
كم منا من يسأل ما الحياة ؟
ولماذا خلقنا ؟ وإلامَ المصير ؟
إننا نقطع الوقت من الصباح إلى المساء ، في مشاغل نخترعها لننسى بها أنفسنا ، ونبدد بها أعمارنا ،
من أحاديث تافهة ، ومجالس فارغة ، ومطالعات في كتب لا تنفع ، أو نظرات في مجلات لا تفيد ،
فإن خلا أحدنا بنفسه ، ثقلت عليه صحبة نفسه ، وحاول الهرب منها ،
كأن نفسه عدو له لا يطيق مجالسته ، فهو يضيق بها ، ويفتش عما يشغله عنها ،
وكأن عمره عبء عليه ، فهو يحاول أن يلقيه عن عاتقه ، وأن يتخلص منه .

نفرّ من نفوسنا ونبدد أعمارنا ، في لذائذ نتوهمها ، ونسعى وراءها ولكننا لا ننالها .
ولما كنت أشرف على طبع كتاب ابن الجوزي (صيد الخاطر) الذي قدمت له وعلقت عليه ،
وجدت فيه كلمة عظيمة ،
يقول فيها (إن لذائذ الدنيا نماذج تعرض ولا تقبض) .
نماذج (ريكلامات) للعرض والإعلان ، لا للبيع والاقتناء ،
فأنت تسر برؤيتها ، ولكن لا تقدر على امتلاكها .
خذوا أكبر لذات الدنيا ، (اللذة المعروفة …)
تروا أنها ليست في الحقيقة إلاّ لحظة ، دقيقة أو دقيقتين ،
لا تكاد تحس بأنك قد وصلت إليها ، حتى تجد أنك قد فقدتها .
إنها ليست إلاّ (نموذجاً) مصغراً للذة الآخرة ،
فما يستمر هنا دقيقة فقط ، يدوم هناك إلى الأبد .
إنك فيها كمن يعطى ملعقة من الطعام ليذوقه ويجد طعمه في حلقه ،
فإذا ارتضاه اشترى منه فأكل حتى شبع .
فالذواق في الدنيا والشبع في الآخرة .
لذلك ترى الرجل الفاسق ، يشكو (الجوع الجنسي) مهما (ذاق) من الحرام .
يعرف مئة من النساء ، ثم يرى الواحدة بعد المئة فتطلبها نفسه ، كأنه ما عرف امرأة قط ،
ولا يزال كذلك حتى يعجز جسده ، ولا تكل رغبته ،
فهو كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر ،
وكلما ازداد شرباً ، ازداد عطشاً .
وما عهد فاروق ببعيد .
ومثلها لذة المال .
إن الفقير الذي ينام في كوخ الطين ، ويأكل خبز الشعير ويمشي بالحذاء البالي ،
أو يركب عربة النقل ، التي يجرها الحمار ، يتصور لو أنه نام يوماً على فراش الغني ،
أو أكل على مائدته ، أو ركب في سيارته ،
لنال اللذائذ كلها ولكن الغني الذي أَلِفَ ذلك لم يعد يجد فيه لذة ،
بل يجد الألم إن فقد منه شيئاً .
والشاب المغمور ، يتمنى أن يكون علَماً مشهوراً ،
تردِّد الإذاعات اسمه وتنشر الصحف رسمه ،
ويتحدث الناس عنه ، ولكن العالم المشهور أَلِفَ ذلك لم يعد يهتم به ولا يباليه .
إن لذّات الدنيا مثل السراب ، ألا تعرفون السراب ؟
تراه من بعيد غديراً ، فإذا جئته لم تجد إلاّ الصحراء .
فهو ماء ولكن من بعيد !
عفواً يا سادتي القراء ، إن جئت أعظكم وأزهدكم ، فما أردت وعظاً ولا تزهيداً ،
وما أنا من الوعاظ الزهاد ،ولكنها خواطر أثارها في نفسي أننا في اليوم الأول من المحرَّم ،
وإني وقفت كما يقف المسافر ، وقعدت أحسب كما يحسب التاجر .
إني أنظر إلى حياتنا هذه التي نعيشها ، فأرانا كموكب من السيارات ،
تمضي مجنونة مسرعة ، متسابقة ، همّ كل واحدة أن تسبق الأخرى ،وتخلفها وراءها ،
ولكن لو سألت سواقها إلى أين يسيرون ولماذا يسرعون ؟
لما وجدت عندهم جواباً .
سباق إلى المال ، سباق إلى اللذات ، سباق إلى الوظائف ،
سباق في كل طريق من طرق الحياة .
ثم ينتهي العمر ، فنترك كل ما استبقنا إليه ، ونمضي !
فلنقف لحظات في مطلع كل عام ،
لنسائل أنفسنا ما الذي نربحه من هذا السباق ؟
أو ليس (الربح) الحق من جهة أخرى ،
غير الجهة التي يتجه الناس كلهم إليها ،
ويحسبون أن الربح المقصود فيها ؟
إن هذا اليوم نذير لنا ، بأن السنة المقبلة ستمضي كما مضت السنة المودعة ،
وإن كل واحدة منها تحمل معها جزءاً من أعمارنا ،
حتى تنفد أعمارنا فلنتدارك ما بقي ،
ولنكن يوماً واحداً في السنة من المتناصحين ومن المتواصين بالحق ،
والمتواصين بالصبر .
إنكم تقرؤون في المجلات كلاماً جليلاً يزيد ثقافة عقولكم وكلاماً جميلاً
يدخل البهجة على قلوبكم وكل هذا خير ،
ولكن خيراً منه أن تسمعوا كلمة تذكركم أخراكم ،
وتنفعكم يوم العرض على ربكم .
وما أصلح والله لأن أقول أنا هذه الكلمة ،
وأنا إلى أن أُوعظَ فأتَّعظ ، أحوج مني إلى أن أَعِظَ ،
ولكن (على مدير الكاس أن ينهى الجلاس) .
لمّا أردت أن أسافر إلى جدة ، من بيروت ، قعدت في مطعم المطار ، أفطر وأنتظر ،
وكان المطعم ممتلئاً ، وكل من فيه يأكل ويشرب ويتحدث ،
مثلما كنت آكل وأشرب وأتحدث ، تراهم فتحسبهم أصدقاء متلازمين لا يفترقون .
وأنّ شمْلهم جميع لا يتشتت ،
ولكن مطار بيروت الذي تحط فيه كل ربع ساعة طيارة ، وتقوم منه طيارة ،
لا يلبث الصوت أن يخرج منه ينادي من (المكبّر) :
– ركاب طائرة (boac) المسافرة إلى لندن ، يتوجهون إلى أرض المطار .
فتترك أكلها وشربها جماعة من الحاضرين ، وتقوم .
ثم ينادي :
- ركاب طائرة (klm) المسافرة إلى جاكرتا .
فيترك ناس أكلهم وشربهم ويقومون .
وطائرة إلى أمريكا ، وأخرى إلى الكونغو ،
وثالثة إلى إيران ، ورابعة إلى موسكو .
فنظرت إلى الناس وقلت لأخي ، وكان معي ،
هذه حياتنا .
نعكف على طعامنا وشرابنا ، ومشاغل حياتنا ،
وإذا بالنداء يدعو من (جاء دوره) ليذهب إلى حيث يحمل ،
إما إلى غابات أفريقية ، وإما إلى ثلج سيبيريا ،
وإما إلى ملاهي باريز ومشاهد نيويورك .
فمن كان مستعداً للسفر ، حاجاته مقضية ، وحقائبه معدة ،
وحمله خفيف ، مضى مستريح البال ،
ومن (جاء دوره) ، وهو لم يعد متاعه ، ولم يقض حاجته
ذهب بلا زاد ، ومضى على غير استعداد .
أفلا نستعد للسفرة التي لا بد منها ،
ونتزود لها الزاد الذي لا ينفع غيره فيها ؟
أم نحن نتناسى الموت وهو أمامنا نظنه أبعد شيء عنا ، وهو أقرب الأشياء منا ،
نصلي على الأموات ونشيع الجنائز ، ونحن نفكر في أمور الدنيا ،
كأنا مخلدون فيها ، وكأن الموت كتب على الناس كلهم إلاّ علينا ؟
يا إخوتي القراء .
إننا نعيش الأيام كلها في غفلة ،
فلننتبه اليوم ، ولنقف كما يقف المسافر على المحطة ،
ينظر كم قطع من الطريق وكم بقي عليه منه ؟
ولنفتح دفاترنا كما يفتح دفاتره التاجر ،
لنرى ماذا ربحنا في سنتنا التي مضت وماذا خسرنا ؟
ولنمد أيدينا ، فنقول : يا ربنا ، اغفر لنا ما سلف ، ووفقنا فيما بقي .
اللهم إذا كتبت لنا ، أن نعيش إلى مثل هذا اليوم من قابل ،
فاجعل ما يأتي … خيراً لنا ،وللمسلمين مما ذهب ، …
وإلا ، فاكتب لنا بفضلك وكرمك حسن الخاتمة ،
واغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا ، وتوفنا مع الأبرار .
(كتاب : صور وخواطر – علي الطنطاوي)
|
|
 |
|
 |

|
|
|