![]() |
![]() |
|
#1 | ||||||||||||
![]()
|
وفى هذا الشهر أنزل الله القرآن "هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" "البقرة آية 185"، فاتصلت الأرض بالسماء، فتعلم الناس التطلع إلى السمو والعلى، وشدت أنوار الملإ الأعلى أبصار الملإ الأدنى من الناس، نحو رفيع القمم، ونبيل المثل، ليؤثروا الرفيق الأعلى على الحياة الدنيا "وما عند الله خير وأبقى" "الشورى آية 36". مازال شهر رمضان يعكف فيه المسلمون على كتاب ربهم أكثر مما مضى فيرونه يقص عليهم أحس القصص، وأروع المواقف البطولية، مع مختلف الرسل والأنبياء والصديقين والشهداء، فيدفعهم إلى مزيد التأمل، ويهتدون لمعرفة أفضل الأسوة، وأقوم الصراط "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه وسبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم" "المائدة آية 15- 16" هذا الكتاب المبين فصّل غزوة بدر الكبرى، التى سماها القرآن "يوم الفرقان يوم التقى الجمعان" "الأنفال آية 41" لأن الله فرق فيها بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، وبين القلة الخيّرة من جنود الفضيلة والعدالة، والكثرة الشريرة الماكرة من طواغيت الإثم والفساد "ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين" "الأنفال آية 7". ففى صباح اليوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، وفى يوم جمعة، أخذت المعركة طريقها إلى الميدان بين فئة تسلحت بالإيمان ولم تكن تريد حربا ولا قتالا، وفئة أخرى أعدت للحرب عدتها، وزعمت أن النصر حليفها، ولكن الله صيّر المغترّين أذلاء، وجعل المستضعفين أعزاء "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون" "آل عمران آية 123". من ثمار هذه الغزوة تحقيق معنى البر، والوفاء، والثبات، أمام الأزمات العاتية، والشدائد المزلزلة، والآن نعيش ما يشبه هذه الأزمات، فلتكن هذه الذكرى أسوة لنا وقدوة "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" "البقرة آية 249". ورغم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى" "النجم آيتان 3-4" فإنه لا يستبد بالرأي، ولا ينفرد بالتنفيذ، بل يستشير قومه، ويشاركهم الشدة والمحنة، ولا ننسى موقفه الرائع بعد أن انتصر فى فتح مكة، قال للمهزومين من مشركى مكة "ما تظنون أنّى فاعل بكم؟" قالوا "طامعين راجين خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم" قال لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وفتح مكة تم فى العشرين من رمضان فى السنة الثامنة للهجرة، اليوم الذى شاء الله أن يضع فيه حدا للضلال والتهاون وأن يتم الفتح بلا قتال، فالرسول عليه الصلاة والسلام يوقع قبيل الفتح عهد الحديبية مع قريش، رغم شروطه القاسية فى ظاهرها على المسلمين، لكن يقبلها لأمر أراد الله إبلاغه "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" "يوسف آية 21" إنه يريد السلام، ونشر الإسلام، فأخذت قريش لنفسها فى هذا الصلح ما أحبت من الشروط والاحتياطات، ومع ذلك نقضت العهد، وخانت الميثاق، واعتدت على حلفاء المسلمين، وقتلت منهم على حين غفلة كما يفعل المجرمون الذين لا عهد لهم ولا هادى يهديهم من شرف أو وفاء حسب ما جاء فى سيرة ابن كثير، وأحست قريش بسوء ما فعلت، وقدرت تبعات ما اقترفت، وحاولت أن تخادع المسلمين، والله خادعها وقامعها، وجاء زعيمها أبو سفيان إلى المدينة محاولا لقاء الرسول، بعد العدوان الذى تجاهله، وأراد أن يستغل ابنته أم حبيبة زوجة الرسول فى مسعاه، ففشل ورجع مخزيّا من موقف ابنته، وانتصر الرسول، فنشر السلام، وحرر العباد، والبلاد، وخضع أبو سفيان للحق، ودخل الناس فى دين الله أفواجا. وهكذا يرجع المسلمون من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو جهاد النفس، الذى يحتاج إلى مقاومة ومصابرة، ففى الصوم صبر على طاعة الله بالبعد عن الشهوات وصبر على ما يحدث فيه للصائم من ألم الحرمان، وصبر على إحياء المشاعر الكريمة، والأحاسيس النبيلة اللائقة بمكانة الصوم، ولذلك ورد فى الحديث أن رمضان شهر الصبر، كما ورد أن الصوم نصف الصبر، ولأن الصوم فيه هذه المغالبة المخلصة، والمقاومة التى لا نفاق فيها ولا رياء، جعله الله بينه وبين عبده، ووكل ثوابه إلى عظيم فضله. ففى الحديث "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزى به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". فالصائم يتحمل هذا الحرمان الاختيارى برضا وقبول طراز كريم، من البطولة النفسية والمجاهدة المعنوية التى تؤيد جوانب المجاهدة الحسية، وتغرس شجرة الإيمان باسقة فى نفس الإنسان يقول بعض الأيمة "إذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله عز وجل فى موضع، لا يطّلع عليه إلا الله، كان ذلك دليلا على صحة الإيمان، فإن الصائم يعلم أن له ربا يطّلع عليه فى خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها، فى الخلق، فأطاع ربه، وامتثل أمره، واجتنب نهيه خوفا من عقابه، ورغبة فى ثوابه، فشكر الله تعالى له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله". ويزداد هذا المعنى وضوحا وائتلافا حين نتذكر أن المجاهدة فى رمضان لا تقتصر على ترك المفطرات الحسية، فإن الأخيار من عباد الله يعرفون فى الصوم كيف يصومون عن سيئات معنوية، وخلقية، ونفسية، عديدة، ولذلك قال جابر "إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك، عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، يوم صومك، ويوم فطرك، سواء". إذن رمضان شهر جهاد للمعدة بالحمية والجوع، وجهاد للأعضاء بالعمل المسالم أو الجهد المقاوم، وما أحسن النضال فى مواسم الطاعات، ومواطن البركات، وجهاد للعقل بالمزيد من العلم والمعرفة فى شهر نزل فيه كتاب تضمن كل العلوم والمعارف، وجهاد للقلب بإحياء عواطف الخير والطهر والبرّ فيه، وجهاد للنفس بسحق شهواتها والتحكم فى ملذاتها، طوال شهر الطاعة والعبادة. المصدر: منتدى الخليج
|
|||||||||||
![]() |
|
|