آخر 10 مشاركات
|
الإهداءات |
|
| #1 | |||||||||||
![]() ![]() ![]()
|
نبذة عن الفتوى وأحكامها تعريف الفتوى : الفَتْوَى والفُتْيا هي: «ذِكْرُ الحُكْم المسؤول عنه للسَّائل»[1]، أو: «هي جوابُ المفتي»[2]. وهي بهذا التعريفِ تَشمل ما يتعلَّق بالسؤال عن الحكم الشرعيِّ وغيره، والمقصودُ بها هنا: ما يتعلَّق بالحكم الشرعيِّ. يقال: «أَفتاهُ في المسألة يُفْتيه: إذا أجابَهُ. والاسم: الفَتْوى»[3]. والحكمُ الشرعيُّ هو: «حكمُ الله تعالى المتعلِّقُ بأفعال المكلَّفين»[4]. خطورة الإفتاء: والفتوى من المناصب الإسلامية الجليلة، والأعمال الدينية الرفيعة، والمهامِّ الشرعية الجسيمة؛ يقومُ فيها المفتي بالتبليغِ عن ربِّ العالمين، ويُؤتمَنُ على شرعه ودينه؛ وهذا يقتضي حفظَ الأمانة، والصدقَ في التبليغ؛ لذا وُصِفَ أهلُ العلم والإفتاء بأنهم: ورثةُ الأنبياء والمرسلين، الْمُوقِّعون عن ربِّ العالمين، الواسطةُ بين الله وخَلْقه. قال محمد بن المنكدر: «العالِمُ بين الله تعالى وخلقه، فلينظرْ كيف يدخلُ بينهم»[5]. وقال النووي: «اعلم أن الإفتاءَ عظيمُ الخطر، كبيرُ الموقع، كثيرُ الفضل؛ لأن المفتيَ وارثُ الأنبياء صلواتُ الله وسلامه عليهم، وقائمٌ بفرض الكفاية، لكنه مُعَرَّضٌ للخطأ؛ ولهذا قالوا: المفتي مُوَقِّعٌ عن الله تعالى»[6]. ويقولُ ابن القيم مبيِّنًا مكانةَ المفتي ومسؤوليتَهُ: «وإذا كان منصبُ التوقيعِ عن الملوك بالمحَلّ الذي لا يُنكَر فضلُه، ولا يُجهل قَدْرُهُ؛ وهو من أعلى المراتب السَّنِيَّاتِ، فكيف بمنصب التوقيع عن ربِّ الأرض والسموات؟! فحقيقٌ بمَنْ أُقيم في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عُدَّتَهُ، وأن يتأهَّب له أُهْبَتَهُ، وأن يعلم قَدْرَ المقام الذي أُقيمَ فيه، ولا يكونَ في صدره حَرَجٌ من قول الحق والصَّدْع به؛ فإن الله ناصرُهُ وهاديهِ، وكيف وهو المنصبُ الذي تولاَّه بنفسه ربُّ الأرباب؛ فقال تعالى: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ﴾ [النّـِسـَـاء: 127]، وكفى بما تولاَّه الله تعالى بنفسه شرفًا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ ﴾ [النّـِسـَـاء: 176]. ولْيَعْلَمِ المفتي عمَّن يَنُوبُ في فتواه، وَلْيُوقِن أنه مسؤولٌ غدًا وموقوفٌ بين يدَيِ الله»[7]. حذر السلف من الفُتيا : وكان من عادةِ السَّلَفِ الحذرُ من الفُتْيا والفَرَقُ منها: قال عبدالرحمن بن أبي ليلى: «أدركتُ عشرين ومئةً من الأنصارِ مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدُهم عن المسألةِ، فيردُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجعَ إلى الأوَّلِ»[8]. وقال أيضًا: «لقد أدركتُ في هذا المسجدِ عشرين ومئةً من الأنصارِ مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدٌ منهم يُحدِّثُ حديثًا إلا وَدَّ أن أخاه كَفاهُ الحديثَ، ولا يُسأل عن فُتيا إلا وَدَّ أن أخاه كَفاهُ الفتيا»[9]. وقال عطاء بن السائب: «أدركتُ أقوامًا إنْ كان أحدُهم لَيُسألُ عن الشيء، فيتكلَّم وإنه ليُرعَدُ»[10]. وروى الأعمش، عن أبي وائلٍ شَقيقِ بن سلمة ؛ قال: قال عبدالله بن مسعود: «من أفتى الناسَ في كلِّ ما يستفتونه، فهو مَجنونٌ»[11]. قال الأعمش[12] : قال ليَ الحَكَمُ[13] : «لو سمعتُ هذا الحديثَ منك قبل اليومِ؛ ما كنتُ أفتي في كثيرٍ مما كنتُ أفتي». ورُوي عن ابن عباسٍ نحوُ قول ابن مسعود[14]. وقال أبو حَصين عثمان بن عاصمٍ: «إنّ أحدَهم ليُفْتي في المسألةِ، ولو وَرَدَتْ على عمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه لجَمَع لها أهلَ بدرٍ!»[15]. وكان مالك بن أنس يقولُ: «من أجاب في مسألةٍ، فينبغي من قبل أن يجيبَ فيها أن يعرضَ نفسَهُ على الجنةِ أو النارِ، وكيف يكونُ خلاصُه في الآخرةِ، ثم يجيبُ فيها»[16]. قال النووي: «قال الصَّيْمَرِيُّ والخطيبُ: وقلَّ مَن حَرَصَ على الفُتْيا وسابَقَ إليها وثابَرَ عليها إلا قلَّ توفيقُهُ، واضطرب في أمره. وإن كان كارهًا لذلك غيرَ مُؤْثِرٍ له ما وَجد عنه مَنْدوحةً، وأحال الأمرَ فيه على غيره؛ كانت المعونةُ له من الله أكثرَ، والصَّلاحُ في جوابه أغلبَ. واستدلاَّ بقولِه صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيح: "لا تسألِ الإمارةَ؛ فإنك إن أُعْطِيتَها عن مسألةٍ أُوكِلْتَ إليها، وإن أُعْطِيتَها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها" [17] [18]. من صفات المفتي : وقال النووي أيضًا: «وينبغي أن يكونَ المفتي ظاهرَ الوَرَع، مشهورًا بالدِّيانة الظاهرة، والصِّيانة الباهرة. وكان مالكٌ رحمه الله يعمل بما لا يُلْزِمُهُ الناسَ، ويقول: لا يكونُ عالمًا حتى يعملَ في خاصَّةِ نفسِهِ بما لا يُلزمه الناسَ ؛ مما لو تَرَكَهُ لم يأثمْ، وكان يحكي نحوَهُ عن شيخِه ربيعةَ» [19] [20]. وينبغي للمُفْتي أن يكون حَذِرًا من تلبيسِ إبليس الذي لبَّس به على بعض المنتسبينَ إلى الفقه؛ فيما ذكره ابنُ الجوزي بقوله: «ومن ذلك: أن إبليسَ لبَّس عليهم بأنَّ الفقهَ وحده علمُ الشرعِ، ليس ثَمَّ غيرُهُ، فإن ذُكِر لهم مُحَدِّثٌ قالوا: ذاك لا يفهم شيئًا، وينسون أنَّ الحديثَ هو الأصلُ، فإن ذُكِر لهم كلامٌ يَلين به القلبُ قالوا: هذا كلام الوُعَّاظ. ومن ذلك: إقدامُهم على الفَتْوى وما بلغوا مرتبتَها، وربما أفتَوا بواقعاتهم المخالفةِ للنصوصِ، ولو توقَّفوا في المشكلات كان أولى»[21]. أدب المفتي والمستفتي : ومن الآداب التي كان المفتي والمستفتي من السلف يَتَحَلَّون بها : تركُ السؤال والجواب عمَّا لم يَقَعْ، وعما لا يحتاجُ إليه الإنسان، وعما لم يُفْرَضْ، ولم يكلِّفْنا الله تعالى به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قد يكونُ فيه تشديدٌ على السائل، أو إساءةٌ له: فقد أخرج مسلم في «صحيحه»[22] من رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خَطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يأيها الناسُ قد فرَضَ الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا"، فقال رجل: أَكُلَّ عام، يا رسول الله؟ فسكَتَ، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلتُ: نعم، لوَجَبَتْ، ولما استَطَعْتُم"، ثم قال: "ذَروني ما تَركتُكُم، فإنما هَلَكَ من كان قَبلَكُم بسؤالهم واختِلافِهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكُم بشيءٍ فَأْتُوا منه ما استَطَعتُم، وإذا نَهيتُكُم عن شيءٍ فدَعُوه". وخرَّجه الدارقطني من وجه آخر مختصرًا وقال فيه: فنزل قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ... ﴾ [المـَـائدة: 101] [23]. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: مَنْ أبي؟ فقال: «فُلان»، فنزلت هذه الآية: ﴿ لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ... ﴾[24]. وقد ذكر الحافظُ ابن رجب رحمه الله هذه الأحاديثَ وغيرها، في «جامع العلوم والحكم»[25]، وفصَّل في الكلام فيها تفصيلاً جيِّدًا ننقلُه بتمامه مع شيءٍ من التصرُّف؛ يقول رحمه الله: «فدلَّت هذه الأحاديث على النَّهْي عن السؤال عما لا يُحتاج إليه مما يسوءُ السائلَ جوابُه؛ مثلُ سؤال السائل: هل هو في النار، أو في الجنة؟ وهل أبوه مَن يَنتسب إليه، أو غيرُه؟ وعلى النَّهْي عن السؤال على وجه التَّعَنُّت والعبث والاستهزاء؛ كما كان يفعلُهُ كثيرٌ من المنافقين وغيرهم. وقريبٌ من ذلك سؤالُ الآيات واقتراحُها على وجه التَّعَنُّت، كما كان يسأله المشركون وأهلُ الكتاب، وقد قال عكرمةُ وغيره: إن الآيةَ نزلت في ذلك. ويقربُ من ذلك: السؤالُ عما أخفاه الله عن عباده ولم يُطلِعهم عليه؛ كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الرُّوح. ودلَّت أيضًا على نهي المسلمين عن السؤال عن كثيرٍ من الحلال والحرام مما يُخشى أن يكونَ السؤالُ سببًا لنزول التشديد فيه؛ كالسؤال عن الحجِّ: هل يجبُ كلَّ عام أم لا؟ وفي الصحيح عن سعد رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أعظمَ المسلمين في المسلمين جُرْمًا: من سأل عن شيءٍ لم يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ من أجل مسألته"[26]. ولما سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن اللِّعان، كره المسائلَ وعابَها، حتى ابتُلي السائلُ عنه قبل وقوعه بذلك في أهلِه[27]. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال[28]. ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَخِّصُ في المسائل إلا للأعراب ونحوهم من الوفُود القادمين عليه؛ يتألَّفُهم بذلك، فأما المهاجرونَ والأنصارُ المقيمون بالمدينة الذين رَسَخَ الإيمان في قلوبهم فنُهوا عن المسألة؛ كما في «صحيح مسلم»[29] عن النوَّاس بن سَمْعان قال: أقمتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنةً، ما يمنَعُني من الهجرة إلا المسألةُ؛ كان أحدُنا إذا هاجرَ لم يسألِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم[30]. وفيه أيضًا[31] عن أنس قال: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ، فكان يُعْجبنا أن يجيءَ الرجلُ من أهل البادية العاقلُ فيسأله ونحن نسمع.... وأشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى أن في الاشتغالِ بامتثال أمره واجتناب نهيه شُغلاً عن المسائل، فقال: "إذا نهيتُكُم عن شيءٍ فاجتَنبُوه، وإذا أمرتُكُم بأمرٍ فَأْتُوا منه ما استَطَعتُم". فالذي يتعيَّن على المسلم الاعتناءُ به والاهتمامُ: أن يبحثَ عما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهدَ في فَهْم ذلك والوقوف على معانيه، ثم يشتغلَ بالتصديق بذلك إن كانَ من الأمور العِلميَّة، وإن كان من الأمور العَمليَّة؛ بذل وُسعَه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعُه من الأوامر، واجتناب ما يُنْهى عنه، وتكون هِمَّته مصروفةً بالكُلِّيَّةِ إلى ذلك، لا إلى غيره. وهكذا كان حالُ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسانٍ في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة. فأما إن كانت همَّةُ السامع مصروفةً عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمورٍ قد تقَعُ وقد لا تقع؛ فإن هذا مما يدخُل في النهي، ويُثَبِّط عن الجِدِّ في متابعة الأمر. وقد سأل رجلٌ ابنَ عمر عن استلام الحجر؟ فقال له: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستلمه ويُقَبِّله. فقال له الرجل: أرأيتَ إن غُلبتُ عنه؟ أرأيتَ إن زُوْحِمْتُ؟ فقال له ابن عمر: اجعل «أرأيتَ» باليَمَن، رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبِّله. خرجه الترمذي[32]. ومراد ابن عمر: ألاَّ يكون لك هَمٌّ إلاَّ في الاقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا حاجةَ إلى فَرْض العَجْز عن ذلك أو تَعَسُّره قبل وقوعه ؛ فإنه يفتر العزم عن التَّصميم على المتابعة؛ فإن التَّفَقُّهَ في الدين، والسؤالَ عن العلم إنما يُحْمَد إذا كان للعمل، لا للمِراء والجِدال. وقد رُويَ عن عليٍّ رضي الله عنه أنه ذَكَر فتنًا تكونُ في آخر الزمان، فقال له عمر: متى ذلك يا عليُّ؟ قال: إذا تُفُقِّه لغير الدِّين، وتُعُلِّم لغير العمل، والتُمِسَت الدنيا بعمل الآخرة[33]. وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنه قال: كيف بكم إذا لَبِسَتْكُمْ فتنةٌ يربو فيها الصغير، ويَهرم فيها الكبير، وتُتَّخَذُ سُنَّة، فإن غُيِّرَت يومًا قيل: هذا منكر؟ قالوا: ومتى ذلك؟ قال: إذا قَلَّتْ أُمناؤكم، وكَثُرت أُمراؤكم، وقَلَّت فقهاؤكم، وكَثُرت قُرَّاؤكم، وتُفُقِّه لغير الدين، والتُمِست الدنيا بعمل الآخرة. خرجهما عبدالرازق في كتابه[34]. ولهذا المعنى كان كثيرٌ من الصحابة والتابعينَ يكرهون السؤالَ عن الحوادث قبل وُقُوعها، ولا يجيبونَ عن ذلك: قال عمرو بن مُرَّة: خرج عمرُ على الناس، فقال: أُحَرِّج عليكم أن تسألونا عَمَّا لم يكن ؛ فإنَّ لنا فيما كان شُغلاً[35]. وعن ابن عمر قال: لا تسألوا عَمَّا لم يكن؛ فإني سمعتُ عمرَ لعن السائلَ عَمَّا لم يكن[36]. وكان زيدُ بن ثابت إذا سُئِل عن الشيء يقولُ: كان هذا؟ فإن قالوا: لا، قال: دَعوهُ حتى يكونَ[37]. وقال مسروق: سألت أُبَيَّ بن كعب عن شيءٍ؟ فقال: أكان بعدُ؟ فقلت: لا، فقال: أَجِمَّنا - يعني: أَرِحْنا - حتى يكونَ، فإذا كان اجتهَدنا لك رأينا[38]. وقال الشعبي: سُئِلَ عَمَّار عن مسألة، فقال: هل كان هذا بعدُ؟ قالوا: لا، قال: فَدَعونا حتى يكون، فإذا كان تَجَشَّمْناه لكم[39]. وعن الصَّلْت بن راشد قال: سألت طاوسًا عن شيءٍ؟ فانتهرني وقال: أكان هذا؟ قلتُ: نعم، قال: آلله؟ قلتُ: آلله، قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ ابن جبل: أنه قال: أيها الناسُ، لا تَعْجَلوا بالبلاء قبل نُزوله فيذهبَ بكم هاهنا وهاهنا، فإنكم إن لم تعجَلوا بالبلاء قبل نُزوله، لم يَنْفَكَّ المسلمونَ أن يكونَ فيهم مَنْ إذا سُئل سُدِّد، أو قال: وُفِّق[40]... وقد انقسم الناسُ في هذا الباب أقسامًا: فمِنْ أتباع أهل الحديث مَن سَدَّ بابَ المسائل حتى قَلَّ فهمُه وعلمه لحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حاملَ فقهٍ غيرَ فقيه. ومِن فقهاء أهل الرأي مَن توسَّع في توليدِ المسائل قبل وقوعها، ما يقعُ في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكَلُّف الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات فيه، والجِدال عليه؛ حتى يتولَّدَ من ذلك افتراقُ القلوب، ويستقرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشَّحناءُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويقترنُ ذلك كثيرًا بنيَّة المغالبة وطلب العُلوِّ والمباهاة وصرفِ وجوه الناس، وهذا مما ذَمَّه العلماءُ الربانيُّون، ودلَّت السنة على قُبْحه وتحريمه. وأما فقهاءُ أهل الحديث العاملون به: فإنَّ مُعْظَمَ هَمِّهم البحثُ عن معاني كتاب الله عز وجلَّ، وما يُفَسِّره من السنن الصحيحة وكلام الصَّحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقُّهُ فيها وتفهُّمُها والوقوفُ على معانيها، ثم معرفةُ كلام الصحابة والتابعينَ لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزُّهد والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريقُ الإمام أحمدَ ومن وافقَهُ من علماء الحديث الربَّانيين، وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغل بما أُحدِث من الرأي مما لا يُنتفَع به ولا يقع، وإنما يورث التجادلُ فيه كثرةَ الخصومات والجدال، وكثرةَ القيل والقال، وكان الإمامُ أحمد كثيرًا إذا سئل عن شيءٍ من المسائل المولَّدات التي لا تقَعُ يقول: دعونا من هذه المسائل المُحدَثَة. وما أحسنَ ما قاله يونس بن سليمان السَّقَطيُّ: نظرتُ في الأمر فإذا هو: الحديث، والرأي؛ فوجدتُّ في الحديث: ذكرَ الرب عز وجل وربوبيَّته وإجلالَه وعظمتَه، وذكرَ العرش، وصفةَ الجنة والنار، وذكرَ النبيين والمرسلينَ، والحلال والحرام، والحثَّ على صلة الأرحام، وجماع الخير فيه، ونظرتُ في الرأي فإذا فيه: المكر، والغدر، والحِيَل، وقطيعة الأرحام، وجماع الشرِّ فيه![41]. وقال أحمد بن شَبُّوْيَه: من أراد علمَ القبر فعليه بالآثار، ومن أراد علم الخُبْز فعليه بالرأي[42]. ومن سلك طريقَهُ لطلب العلم على ما ذكرناه تَمكَّن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبًا ؛ لأن أصولَها توجد في تلك الأصول المشارِ إليها، ولابدَّ أن يكونَ سلوكُ هذا الطريق خلفَ أئمةِ أهله المجمَع على هدايتهم ودرايتهم؛ كالشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي عبيدٍ، ومَن سلك مسلكهم؛ فإن من ادَّعى سلوكَ هذا الطريق على غير طريقهم وقعَ في مفاوزَ ومهالكَ، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وتركَ ما يجبُ العمل به. ومِلاكُ الأمرِ كلِّه: أن يقصدَ بذلك وجهَ الله والتقرُّبَ إليه؛ بمعرفة ما أنزله على رسوله، وسلوكِ طريقه، والعمل بذلك، ودعاءِ الخلق إليه، ومن كان كذلك وفَّقَه الله وسدَّده، وألهمه رُشْدَه، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحينَ في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فَـاطِـر: 28]، ومن الراسخينَ في العلم.... قال نافعُ بن يزيد: يقال: الراسخون في العلم: المتواضعونَ لله، المتذلِّلونَ لله في مَرْضاته، لا يتعاظَمون على مَن فوقهم، ولا يَحْقِرون مَن دونهم[43]. ويشهدُ لهذا قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهلُ اليمن، هُمْ أَبَرُّ قلوبًا، وأَرَقُّ أفئِدَةً، الإيمانُ يَمانٍ، والفقهُ يَمانٍ، والحكمةُ يمانيَّة"[44]. وهذا إشارةٌ منه إلى أبي موسى الأشعري ومَن كان على طريقه من علماء أهل اليَمَن، ثم إلى مثل أبي مسلمٍ الخَوْلانيِّ، وأُوَيس القَرَني، وطاوس، ووَهْب بن مُنَبِّه، وغيرهم من علماء أهل اليمن، وكُلُّ هؤلاء من العلماء الربانيِّين الخائفين لله، وكلُّهم علماءُ بالله يخشونه ويخافونه، وبعضُهم أوسع علمًا بأحكام الله وشرائع دينه من بعض، ولم يكن تميُّزهم عن الناس بكثرة قيلٍ وقال، ولا بحثٍ ولا جدال. وكذلك معاذُ بن جبل رضي الله عنه أعلمُ الناسِ بالحلال والحرام[45]، وهو الذي يُحشَر يوم القيامة أمامَ العلماءِ بِرَتْوَةٍ[46]، ولم يكن علمُه بتوسعة المسائل وتكثيرها، بل قد سبق عنه كراهةُ الكلام فيما لم يقَعْ، وإنما كان عالماً بالله، وعالماً بأصول دينه. وقد قيل للإمام أحمد: مَن نسألُ بعدكَ؟ قال: عبدَالوهَّاب الورَّاقَ. قيل له: إنه ليس له اتِّساعٌ في العلم. قال: إنه رجلٌ صالح، مثله يوفَّق لإصابة الحقِّ[47]. وسُئل عن معروفٍ الكَرْخيِّ؟ فقال: كان معه أصلُ العلم: خشيةُ الله[48]. وهذا يرجعُ إلى قول بعض السَّلَف: كفى بخشيةِ الله علمًا، وكفى بالاغترارِ بالله جهلاً[49]. وهذا بابٌ واسعٌ يطول استقصاؤه، ولنرجِعْ إلى شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه[50]، فنقول: من لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا يوجد مثلُها في كتابٍ ولا سُنة، بل اشتغل بفَهْم كلام الله ورسوله، وقَصْدُهُ بذلك امتثالُ الأوامر واجتنابُ النواهي- فهو ممن امتثل أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وعملَ بمقتضاه. ومن لم يكن اهتمامُه بفهم ما أنزلَ الله على رسوله، واشتغلَ بكثرة توليد المسائل قد تقَعُ وقد لا تقَعُ، وتكلَّف أجوبتَها بمجرَّد الرأي - خُشِيَ عليه أن يكونَ مخالفًا لهذا الحديث، مرتكبًا لنَهْيه، تاركًا لأمره. واعلم أن كثرةَ وقوع الحوادث التي لا أصلَ لها في الكتاب والسنة، إنما هو مِن تَرْكِ الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله؛ فلو أن مَن أراد أن يعملَ عملاً سأل عمَّا شرعه الله في ذلك العمل فامتثله، وعمَّا نهى عنه فيه فاجتنبه، وقعت الحوادثُ مقيَّدةً بالكتاب والسنة. وإنما يعمل العاملُ بمقتضى رأيه وهواه، فتقَعُ الحوادثُ عامَّتُها مخالفةً لما شرعه الله، وربما عَسُر ردُّها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة؛ لبُعدِها عنها. وفي الجملة: فمن امتثَلَ ما أمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وانتهى عمَّا نهى عنه، وكان مشتغلاً بذلك عن غيره - حصلَ له النَّجاةُ في الدنيا والآخرة. ومن خالف ذلك، واشتغلَ بخواطره وما يَستحسِنُه، وقع فيما حذَّر منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسُلُهم». انتهى كلامُ ابن رجب رحمه الله. المصدر: منتدى الخليج
|
||||||||||
| الكلمات الدلالية (Tags) |
| نبذة, وأحكامها, الفتوى |
| أدوات الموضوع | |
| انواع عرض الموضوع | |
|
|