عائلة السموني تروي حكايات الدم والموت في حي الزيتون

#1

عائلة السموني تروي حكايات الدم والموت في حي الزيتون

عائلة السموني

فادي الحسني (سبق) غزة:

كلما كان يعلو هدير الجرافات والدبابات خلال الحرب الطاحنة في حي الزيتون شرق قطاع غزة، كانت الطفلة مؤمنة السموني تهرع نحو والدها الثلاثيني ليحميها من خطر الموت الذي يحوم بالقرب من منزلها.
استشعرت الطفلة السموني الخطر كثيرا ليلة الخامس من يناير الحالي، حين دوى انفجار قريب، لكنها لم تكن تتوقع أن يتكرر مثل هذا الانفجار داخل منزلها المكون من دور واحد.
بعد دقائق من الانفجار الخارجي، توالت طرقات العشرات من المهجرين من أقارب الطفلة على باب منزلها، تقول "فتحنا لهم الباب ودخلوا مفزوعين ..الجيش الإسرائيلي أجبرهم على الخروج من منازلهم والتجمع داخل منزلنا".
البيت فاض بمن فيه..نساء وأطفال وشباب تكدسوا في غرفتين منفصلتين- كما أمرهم الجيش- حينها كانت مؤمنة وستة من أشقائها تصطف بجانب والدتها وحولها العديد من النسوة الهاربات، فيما كان شقيقيها الصغيران يحتميان بوالدهم وائل في غرفة تعج بالـذكور.

الصمت سيد الموقف
الحرب كانت طاحنة خارج المنزل-كما تقول الطفلة- الجميع كان صامتا..لا أحد يجرأ على النظر للخارج عبر نوافذ البيت، لكن سرعان ما أصابهم الفزع، حين سقطت قذيفة مدفعية على المنزل، فأصابت من أصابت من الرجال.
تقول مؤمنة "معرفناش ايش نعمل ..صرخنا ..رحنا نجري بعيد عن مكان القذيفة".
وما لبث عويل النساء أن يتصاعد مع الدخان الذي خلفته القذيفة، حتى توالت قذيفتين أخرتين على ذات البقعة من المنزل.
ابتسام السموني والدة مؤمنة، قالت إن سقوط القذيفة الثالثة أصابتها بهوس، فركضت نحو زوجها وطفليها، فوجدتهم مسجيين بدمائهم في باحة المنزل، مع العشرات من أبناء العائلة". تضيف ابتسام "32 عاما" وهي تتشح بالسواد "لك أن تتخيل شعور أم وجدت طفليها الصغيرين ميتين، وزوجها مصاب في أنحاء مختلفة من جسده!".
لم يكن وائل المخضب بالدم يقوى على السير فحملته الزوجة المصدومة وانطلقت به بعيدا عن هول المشهد المأساوي..تصيح الزوجة "انجدونا يا ناس ..حرام أولادي ماتوا ..الحقونا" لكنها لم تجد صدى، حسب تأكيـدها.
تصمت ابتسام قليلا لتجفف دموعها، فتندفع طفلتها مؤمنة ذي الثانية عشر من عمرها، بالقول "كنا نصرخ ونصيح لكن اليهود المنتشرين فوق المباني كانوا يضحكوا علينا"، وتتابع بلهجة أشعلها الغضب "ايش عملنالهم مش عرفين..ايش ذنبنا إحنا علشان يصير فينا هيك مش حرام عليهم".
هرب من هرب وقتل من قتل من أبناء العائلة، لكن رفيق "39 عاما" وهو واحد من بين الناجين من عائلة السموني يقول "لم نكن نعلم ماذا كان يجري في الخارج ..كنا محاصرين في منزل ابن عمي".

نحن جيش الدفاع
يلتفت رفيق قليلا نحو الأرض الخالية، ليستذكر ما جرى معهم، ويردف "كل ما اذكره أننا هربنا فجر الخامس من الشهر الحالي تحت وقع الموت والقصف إلى منزل ابن عمي الذي يبعدنا ببضعة أمتار..ما لبثنا أن استشعرنا الأمن قليلا حتى داهمتنا قوات الاحتلال وهي تنادي "افتخ باب نخن جيش الدفاع".
ويؤكد رفيق-الذي استضافنا داخل غرفة صنعها من النيلون فوق أنقاض منزله المباد- أن الجيش قام بوضع العصبة على أعينهم وكبل أيديهم ووجههم نحو الجدران.
بقي رفيق ومن معهم من أبناء عمومته يوم كامل على هذا الحال، لا يدرون ما يجري خارج عتبات المنزل الذي اتخذت قوات الاحتلال منه مقرا لاستطلاع عزبة السموني الزراعية.
بعضا من المحاصرين كانوا يخشوا من تنفيذ قرارات إعدام بحقهم، خاصة منهم من استطاع ترجمة الحديث المتواصل بين الجنود، ويقول رفيق :حقيقة كنا نخشى من محاولة إعدامنا، لاسيما أن الضابط العسكري كان يعطي أوامر للجند بألا يرحموا أحدا..اقتلوهم دعوهم يموتوا" وفق ما نقل عن الجيش.
عقب سماع رفيق وباق المحاصرين البالغ عددهم ستة وأربعين محاصرا، صوت خمسة صواريخ تسقط بالقرب منهم، اندفع صراخ امرأة "الحقونا ..الحقونا"، ويقول "حينها أصبحنا نتخبط، لكن الجنود الإسرائيليون أمرونا بالتزام الصمت وألا سنعدم".
مصيبة حلت
كان المحاصرون من آل السموني يستشعرون أن هناك مصيبة قد حلت، خاصة مع اقتراب الصراخ أكثر فأكثر، ويشير رفيق إلى أن الجيش فجأة أدخل عليهم أثنين من أبناء عمومته وهم موسى و ميساء، اللذين نجيا بأعجوبة من القذائف التي توالت على بيت العائلة القريب.
ويصف حال الاثنين معا :دخلوا علينا مصابين بحالة هستيريا..كانا يتخبطان..بالكاد استطاع موسى أن يلتقط أنفاسه ويخبرنا بأن منزل العائلة قد دمر وأن أرواح من فيه معلقة بين الحياة والموت بعد أن سقطت الصواريخ عليه".
تلك اللحظة فجع المحاصرون من أبناء العائلة بما جرى لأبناء عمومتهم، فدب النحيب والصراخ في المكان، مما دفع بالضابط الإسرائيلي بإعطاء أوامره للجنود بإتاحة المجال للمحاصرين بمغادر المنزل بعد رفع علم أبيض، مع عدم الالتفات إلى الخلف، والانطلاق نحو الطريق الشرقي المسمى "بشارع صلاح الدين".
يشير حينها إلى أن أفراد العائلة بدؤوا بالاتصال بالصليب الأحمر الدولي لطلب المساعدة وكذلك بالإسعاف والدفاع المدني، لنقل المصابين وانتشال الجثث.
ويقول رفيق "جميع محاولاتنا باءت بالفشل، خاصة بعد أن أخبرنا الصليب بأن نقل المصابين والشهداء يحتاج إلى تنسيق مع قوات الاحتلال، وأن الأخيرة ترفض لهم السماح بدخول المنطقة التي تفرض عليها طوقا أمنيا مشددا".
يبذلون المساعي
ثلاث أيام وأفراد العائلة يبذلون كافة المساعي لإسعاف من لا يزال على قيد الحياة من المصابين-كما يقولوا- مع أنه لم يكن لديهم علم حينها بعدد المصابين أو حتى الشهداء.
يحضن رفيق رأسه بيديه، وشفاهه ترتجف، ثم يردف "أليس ما جرى حرام ؟..بعد ثلاث أيام من المجزرة استطاع الصليب الأحمر إنقاذ حياة ثلاث أطفال كانوا يجلسون بين الجثث المخضبة بالدم..وجدوهم يطعمون بعضهم قطعا من البندورة وبعض فتات الطعام".
فيما نقل الإسعاف جثث سبعة شهداء، وتسعة من المصابين من أبناء العائلة كانت لا تزال تدب فيهم الروح، إلا أن سلطات الاحتلال لم تسمح بإخراج باق الجثث التي بدأت تنبعث منها رائحة العفن.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، صباح الثامن عشر من يناير الحالي، هرع الناجون من أبناء العائلة لاستخراج الجثث، كما يقول رفيق، لكن الفاجعة كانت بالنسبة لهم، حين رؤوا أن القذائف الصاروخية قد جاءت على كل شبر في المنزل الذي يتناثر بين أركانه جثث اثنين وعشرين شهيدا.
يقول رفيق "حملنا معاولنا وجئنا بالبلدوزرات لنبش الأنقاض واستخراج الجثث"، ويشير بسبابته للركام "كما ترى لم يتبقى لنا شيئاً، حتى الدواب أبيدت".
لا شيء يستطيع أن يمحوا من ذاكرة أطفال هذه العائلة صور الموت والخراب، فتقول أمل التي فقدت شقيقها وهي في العاشرة : سنظل صامدين..بيفكروا يعني حنتنازل؟..لا مش حنتنازل عن أرضنا".
وتضيف الطفلة أمل التي تغيبت عن الدوام المدرسي، لأن زيها المدرسي تحت الأنقاض -كما تقول" بدنا نعيش زي أولاد العالم مهما عايشين، أبوي مزارع مقصفش حد ولا طخ على حد علشان يقصفوه هيك ويقتلوا أخواتي".
ترتجف يدا الصغيرة بردا، ولكن لسانها لم يتوقف عن رواية المشهد : شفنا الصغار مقتلين..محمد ابن عمي حلمي عمره خمس أشهر، أخذ طلقة نارية
برأسه..أيش ذنبه؟".
ثمة حرقة تأخذ الطفلة لتقول "الناس أعطونا أواعي نلبس..طلعنا من بيتنا بدون لبس ولا حتى كتب..كيف حرجع المدرسة وإحنا هيك؟..حتى مدرستنا قصفت".
بقايا منزل
تجلس اليوم أمل على بقايا منزلها وحولها أشقائها الصغار، ولا تعلم ما آلت إليه حالة أبيها وشقيقيها، اللذان يتلقيان العلاج في مستشفيات القاهرة، بينما كان أعمامهما يدقون لهم أوتاد خيمة فوق ركام المنزل المباد على رؤوس من فيه، وبجوارهم بيت عزاء فرغ من المعزين.
رب قائلا يقول "الكبار يموتون والصغار ينسون"، لكن ترى أي رفاهية تلك التي يعيشها أطفال غزة تستطيع أن تنسيهم ما حل بهم من مجازر!، وهل للمسّاحات أن تمحي كلمات الموت والدم المرسوم على بقايا صبورات المدارس المهدمة؟.

المصدر: منتدى الخليج