منتدى الخليج - للهِ الأمر من قبلُ ومن بَعْدُ

((للهِ الأمر من قبلُ ومن بَعْدُ))

هذه هي الآية الرابعة من سورة الروم، وقد نزلت لتحسم الامر في خلاف في مكة المكرمة وقع بين المسلمين والمشركين، وفحوى هذا الخلاف ان المشركين تفاخروا واختالوا إذ سمعوا ان الفرس هزموا الروم في بيت المقدس، والروم من اهل الكتاب، والمجوس كانوا عبدة نار، فتماهى المشركون بالنصر، لان عبادة الله لم تفلح، فنزلت سورة الروم تبشر المسلمين بانتصار اهل الكتاب في بضع سنين على الفرس، وكلمة بضع تعني من ثلاث سنوات الى عشر سنوات، وهذه الآية وامثالها من آيات علم الغيب قوة للمسلمين في سلامة اعتقادهم، وكتب التاريخ تقول إن هزيمة الروم كانت عام 614م وإن انتصارهم كان عام 622م، قال جل وعلا: لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.
ويتساءل قارئو كتاب الله: لماذا جاءت كلمة (قبل) بضمة؟ أليس قبلها حرف جر؟ اذا الاولى كسرها، وكذلك كلمة (بعد)، الاولى بعدِ وليس بَعْدُ! والاجابة على ذلك وافية شافية، إن في لغتنا العربية شيئا اسمه الحذف، فقد يحذف العرب المبتدأ لغرض ما وهدف ما، وربما يحذفون الخبر لغرض ما وهدف ما، واما هنا في آية «لله الأمرُ من قبلُ ومن بَعْدُ» فقد حذفت كلمتا الهزيمة والنصر، فالآية تشير الى ان الامر لله من قبل الهزيمة او النصر ومن بعد الهزيمة او النصر، فيصبح المعنى ضيقا جدا، كأنه محصور في هذا الحدث التاريخي، فحذف الحدث ليبقى الموضوع عاما وشاملا، فالامر لله منقبل أي امر في الدنيا ومن بعد أي امر في الدنيا، كل الاعمال والحوادث والافعال مردها الى الله تعالى إن شاء أذن بها وإن يشأ لم يأذن بها، فقد أذن سبحانه بانتصار عبدة النار لغرض وأذن بهزيمتهم لغرض.
ما سر الحركة في (من قبلُ) وما سرها في (مِنْ بَعْدُ)، السر هو الحذف، او ما سماه اللغويون والنحويون شجاعة العربية، لقد حذف المضاف اليه الذي يأتي بعد ظرف الزمان قبل او بعد، فالاصل ان نقول (قبل الهزيمة او بعد النصر) لان الظرف لا يأتي إلا مضافا ومضافا اليه، فهذا الحذف سبّب اختلافا في الحركة، نقول إن كلمة (قبلُ) بنيت على الضم ومثلها (بَعْدُ) بسبب الحذف، لقد فقد الظرف هنا شيئا ما منخصوصياته، لقد تنازل عنها من اجل المعنى المخفي بسبب الحذف، لقد تنازل ليُعطى المضاف اليه شمولا واتساعا.
وتستطيع ان تظن او تخمن سبب الحذف في قوله تعالى «فقبضتُ قبضة من أثر الرسول» فالمعلوم ان السامري نظر الى فرس جبريل عليه السلام، فقبض قبضةمن اثر الفرس، لان الأثر جاء من هذه الفرس وما فيها من تخلق خاص يناسب مقام جبريل عليه السلام إذ كان للتراب الذي تدعس عليه الفرس روحانية خاصة فكيف بالفرس وكيف براكب الفرس، وتستطيع ان تظن او تخمن قيمة الحذف في قوله تعالى «واسأل القرية التي كنا فيها» من سورة يوسف آية 82، لماذا استعمل كلمة (القرية) بدل اهل القرية؟ إن لغتنا العربية لها اسرار لغوية متوافرة وكبيرة كافية لملء جهود العلماء، ونعم اللسان العربي.