![]() |
المظلومون في تاريخنا !!
المظلومون في تاريخنا د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي http://www.almujtamaa-mag.com/Images.../P66_01_01.jpg د.عبدالرحمن على الحجي الحلقة الأولى تاريخنا الإسلامي وحضارته.. ناله الكثير من الظلم بأنواعه، افتراءً، مبرمجاً مقصوداً، قديماً وحديثاً. لكن أفظع الظلم، اتهامه ورميه بما هو منه بريء، براءة الذئب من دم يوسف، عليه السلام، وما من شكٍ أن وراء ذلك أسباباً تدميرية، من جهاتٍ وفئات متعددة، جَمَعَها العداء له. وقد ساءها انتصارُه وانتشاره الواسع بين الشعوب التي أقبلت عليه، معتنقة له عقيدة وشريعة مستعدة للتضحية من أجله بأغلى ما لديها، عاملة به وداعية له بسلوكها، حاملة رايته بكل ما تستطيع، وبكل مقتضيً لديها، ومحصلةُ ذلك هي الإساءة إلى الإسلام نفسه، لكن أليس الجهل بهذا التاريخ هو وجه آخر من وجوه الظلم كذلك؟ وعلاج الأمر كله أو مفتاحه على الأقل معرفة هذا التاريخ والتوسع في الاهتمام به واستيعاب عِبَرِه. ولهذا الظلم المشهود درجاتٌ متفاوتة، بعضها دون أو فوق بعض. لكن من الواضح أن سهم تاريخنا أكبر من غيره، من فروع الدراسات الإسلامية. لقد كان من وسائلهم المتمرسة أن وجهوا ظلمهم أول ما وجهوه نحو أنصع الصفحات وصانعيها لتاريخنا، وبالتالي لمبانيها ومعانيها. كأنهم يقولون: إذا كان هذا هو حال صفحات المفاخر وأهلها، بهذا الشكل المتردي في تاريخنا وحضارتنا، فماذا تقولون إذن في غيرها؟ خذ مثلاً على ظلمهم لهذه الصفحات المتألقة والقائمين بها وعليها، من مثل: الفتوحات الإسلامية، بيعة السقيفة، حروب الرِّدَة. لقد نالوا بذلك عموم المسلمين وخصوصهم: خلفاءهم وأُمراءهم وقادتهم وعلماءهم وفقهاءهم وقضاتهم وأهل الرأي فيهم، غنيهم وفقيرهم، خلال مراحل التاريخ. لقد جرت تلك المظالم في ذات الطريق، تفنناً وافتناناً وتمادياً، لا سيما بعد فشل الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي، خلال قرنين من الزمان: حروب السيف والتنكيل والتقتيل، ومثلها وأشد منها وأعنف وأطول ..أُختها: الحروب الصليبية في المغرب الإسلامي.. الأندلس وما أمامها وما خلفها، وانتهاءً بمحاكم التفتيش، التي غدا اليوم بعض الدارسين الأوربيين يستهجنونها، رغم محاولة جمهرة منهم أحياناً تأويلها أو التخفيف من بشاعتها. كان من ذلك التقرير (نحو سبعمائة صفحة، كتبت عنه صحف أوروبية) الذي أصدرته البابوية السابقة، مدعية أن محاكم التفتيش تلك لم تكن بتلك القسوة! ومعلوم للجميع ما ارتكبته البابوية الوريثة. عند الفشل في النيل، من وراء ذلك الظلم التاريخي، أنشؤوا لهذا الظلم التاريخي معاهدَ، هي له مصانع، ابتداءً: من طريق إقامة الاستشراق ورعاية تياره في العالم الإسلامي نفسه، وأخذاً ببثه في أوساط هذا العالم، وانتهاءً بتكوين من يقوم مقامَهم، لتكون دُورنا أو حصوننا مهددة من داخلها، على قاعدة: "إن خيرَ من يقطع الشجرة أحدُ أبنائها". فكان هؤلاء المصنوعون أشدَّ علينا وأكثر جُرْأَة وأمضى تهمة من أولئك، ويتضح ذلك جلياً في كل مكان من خلال بعض الأتباع الذين تصدروا المواقع، متبنين ذات الدوافع، حتى وإن وقفوا خلف البراقع، بادعاء العلمية والأكاديمية التي لايعرفونها أبداً، فأسسوا فينا المواجع.. رآهم كل من عمل معهم وتداول مواقعهم وعانى من التواءاتهم. والحمد الكثير لله تعالى، فقد تغير الحال اليوم بما توافر من القائمين على رعاية هذا التاريخ وحضارته، ممن فهموه وتعمقوا فيه وأدركوا مضامينه الحقة ومرابعه المزدهرة وحقائقه البريئة، من غير إهمال لكل أحواله الأُخرى، ولكن باستحقاقاتها، نتيجة بحوث مضنية متأنية، يُدرك ذلك جلياً كلُّ من خاض مجالي (مجالات) التاريخ الإسلامي وحضارته الرفيعة، يتوازى ذلك مع السير، اطراداً مع وضوح الرؤية في هذه الأُمور ويزداد تبيناً وجلاءً وسموا، بمقدار المضي في هذه السبيل، ناهلاً من ينابيعه. إن من يُحَدّق جيداً متأنياً موضوعياً، في تضاعيف هذا التاريخ ويرى أروقته الممتدة الظليلة الدافئة، سوف يُدْهَش حتماً، وقد يفزع مستفسراً: كيف مضت وسرت واستقرت هذه المظالم، مغطية عموم التاريخ الإسلامي، دون تميز بين الحق والباطل والصدق والكذب والحقيقة والافتراء، ما وقع فعلاً وما لم يقع، فسارعت مخترقة هذه المباني الشوامخ؟ لعله يصل بذلك إلى ثلاث نتائج مختارة بارزة: 1 - أًيُّ مجهود بُذِلَ لبث هذه المظالم، وأيّ قوم هؤلاء الذين وقفوا وراءها أو لها، وأيّ طول من الزمان صبروا عليه، ليشيعوها ويقبلها حتى أهل هذا التاريخ، ما لو بذله أَهلُه لرعايته لوقف سداً منيعاً دون تحقيق ما حققوه؟ 2 - أَيُّ إهمال جرى من أهله مقابل ذلك، أو جهل بحقيقته وبتلك المظالم، حفوا به أنفسهم فحال دون إدراك حقائق الأُمور، ليهرعوا لبيانه وخدمته وتقديمه، أو على الأقل للإسراع في تجلية الواقع، ليرفدوه ويستدركوا ما عليهم إدراكه؟ 3 - والآن: ما الجهد اللازم اليوم من أهله، لدفع هذا الظلم وكشفه عن المظلومين في هذا التاريخ. ثم من بعد، لتقديمه بحقائقه وبيان جوانبه المضيئة ولآلئه النادرة الكريمة، مع عدم إهمال المنحدرات التي طرأت على الأُمة، خلال تاريخها، لتنفع بذلك، دروساً وعِبراً ومَدداً؟ وهو ما سأشارك به إن شاء الله تعالى في أكثر من جانب منه، ببيان الحق ومتابعة الواقع التاريخي وبحث النظر في أحداثه، لتتبين الأمور بأدلتها، ويأخذ الحق مكانه، ويرتفع الظلم عن المظلومين، في أعداد قادمة، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل. |
المظلومون في تاريخنا (2) د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الثانية ما أكثر الظلم الذي تَحَمّله تاريخُنا الإسلامي وحضارتُه من أعدائه ومن بعض مَنْ انتسبوا إليه كأبنائه. وعليه فما أكثرالمظلومين فيه كذلك، والمقصود أولاً وآخراً الإسلام، والإسلام وحده وليس غيره، يستوي فيه الماضي والحاضر. وليس المقصود بالظلم هنا ما وقع لأهله أفراداً وجماعاتٍ وأحداثاً من أذيً محققٍ فعلاًً واضطهاد لهم في حياتهم الشخصية، من قِبَل أي أحد، عدواً كان أو صديقاً أو من الأبناء المدعين، إنما المقصود أُولئك الذين نالهم الظلم في تشويه سيرتهم وأعمالهم وحياتهم، وربما إلى اليوم. لقد نال هذا الظلمُ والافتراء والاعتداء كُلَّ ركن وكل أحد وكل صنف من الناس في العصور والبلدان، رجالاً ونساءً، ويمكن الاستنتاج أن كل من خدم الإسلام وخدمه أكثر كان سهمه من الظلم أكثر. فالمظلومون من الخلفاء كثيرون، وربما أولهم ثلاثة: الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان (35ه = 656م)، والخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد(193ه = 809م)، والخليفة العثماني الرابع والثلاثون عبدالحميد الثاني (1326ه = 1909م). بل بلغ الظلم حداً غريباً، حيث ذُكر أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح، تآمروا على أن يتولوا الحكم الواحد بعد الآخَر!! بل إن الخليفة عمر بن عبدالعزيز نفسه لم يسلم من الظلم. كان هذا في المشرق الإسلامي، أما في مغربه (الأندلس، ما قبله وما بعده) فلدينا العديد من الأمراء والخلفاء الذين ظلموا، من أمثال: أمير المرابطين يوسف بن تاشُفين (500ه)، والخليفة الأندلسي عبدالرحمن الناصر (350ه)، وابنه الحَكَم المستنصر (366ه). ومن الولاة والأُمراء والقادة: خالد بن الوليد (21ه = 642م)، وعمرو ابن العاص (43ه = 664م)، وأبو موسى الأشعري عبدالله بن قيس(44ه=665م)، وموسى بن نُصَيْر(97ه = 715م)، وابنه عبدالعزيز (97ه=716م) والي الأندلس بعد أبيه موسى وأحد الفاتحين لها، وطارق بن زياد (بعد 100ه = بعد 718م). ومن العلماء والفقهاء والقضاة: ابن رشد الحفيد محمد بن أحمد (595ه = 1198م). وقد اتُهِموا بالجمود في نِتاجهم لا سيما أدبهم وبالذات شعرهم، حتى لقد نالوا ظلماً من الأئمة المؤرخين الأعلام الثِّقات، أمثال: محمد بن إسحاق (151ه = 768م) صاحب السيرة النبوية الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام، التي هذبها عبدالملك بن هشام (213ه = 828م) وعُرِفَت به، والمؤرخ الفقيه الإمام محمد بن جرير الطَّبَري (310ه = 923م)، لكنهم بالمقابل جعلوا من مصطفى كمال أتاتورك (1356ه = 1937م) المصنوع بطلاً حقيقياً، وكان قد ألغى الخلافة العثمانية سنة 1924م، مثلما جعلوا مكتشفين جغرافيين.. أبطالاً.. مثل: ماجِلاّن البرتغالي (1521م) الذي قام بحملة عسكرية ضد المسلمين في الفلبين، كما جعلوا مثله كذلك فاسكو دي جاما البرتغالي (1524م)، وهو الذي جهز حملة مماثلة إلى الهند. وإذا كان هذا بالنسبة للأعلام، فالأمر لايختلف بالنسبة للأحداث والفئات والمواصفات، وطبعاً من ورائها الأفراد والجماعات والمجتمعات، أي قّلَّ من بقي من المسلمين إلا وقد حمل من الظلم ما ينوء به حملاً حتى يقع مقتولاً، يُقَوّلونه تلفيقاً ويحركونه افتئاتاً ويُفَسّدون نيته تجريماً، كما يجرحونه، بعد أن يجرمونه، حتى يدموه. فأنكروا على المجتمع المسلم أن تكون فيه العفة في كل الأمور، لا سيما في العَلاقات بين المرأة والرجل، واعتبروا ذلك ظاهرة يونانية النشأة ونُقلت منهم!! والجهاد ومعاركه ونشاطه افترسوه وذروه في الهواء معتبرينه تجاوزاً، وأسوأ من ذلك قالوه، كما زعموا حول بلاط الشهداء (114ه = 732م). كما ساقوا الظلم إلى الأقوام: العرب والعجم والبربر، ووجهوه إلى الأعمال، منها بناء المساجد، منتزعين أرضها من الآخرين، ليقيموها في أماكن عبادتهم نفسها، كما أنهم لم يحسنوا معاملة غير المسلمين، وما حفظوا عهود الآخرين، كل ذلك دفعوه إلى تاريخنا. ونسوا أو تناسوا ما أنزله الآخرون بالمسلمين، لا سيما ما جرى على يد محاكم التفتيش. وللفئات كِفْلٌ من ذلك ثقيل، فقالوا : إن الإسلام خلال تاريخه ظلم المرأة، وفتح أبواب الرِّق لها ولأخيها الرجل، التي جعلها دونه درجة، وأن التاريخ الحضاري لا يحمل إبداعاً، وكل الذي قدمه المسلمون هو ترجمات من اللغات الأُخرى، لا سيما من اليونانية، بل إن الإسلام هو ضد الحضارة ويؤخرها. ومن وجوه الظلم الشديد والافتئات البليد والجور البعيد عن كل تأويل ووضوح.. التجاوز الذي يعلن عن نفسه ويكشف عُواره أو هو مكشوف، لا يكتفي أن يأخذ بصاحبه إلى الغفلة بل إلى التفاهة والتقزز الكريه، من أن الإسلام انتشر بالسيف وأن الفتوحات كانت من أجل الغنائم، بل إنها كانت علاجاً لمشكلة الفقر بتقليل عدد النفوس! بل إن هذا الظلم لتاريخنا وصل إلى السيرة النبوية الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام. وهناك مظالم أخرى غيرها تنوعت أشكالها. كل ذلك يدعو إلى الاهتمام بتاريخنا الإسلامي وحضارته، ورد ذلك إلى موقعه، وإعادة قوته ووضعه في المكان اللائق به في ذاكرة الأُمة وحضوره في فهمها وفعاليته في واقعها، ما يدعو إلى العناية به وكتابته، ليس فقط لإزالة الشبهات ورد الزيف وإزالة الظلم عنه، بل لبيان حقيقته وإظهار تميزه وتبني جمالاته للانتفاع بخيراته. ويقتضي بجانب الجهود الفردية إنشاء مؤسسات متخصصة لإنجاز المهمة بما يناسبها، بل وربما إنشاء كليات لهذا الغرض المهم. |
موسى بن نُصَيْر ..الإداري الناجح والقائد الفاتح الحلقة الثالثة حان وقت الحديث الآن عن أحد المظلومين في تاريخنا الإسلامي وحضارته، لكشف زيف ما رُمِيَ به ظلماً وزوراً: ولد موسى بن نصير سنة 19هـ، فهو تابعي. تولى وظائف إدارية وعسكرية عديدة أثبت فيها جدارة عالية، وغدا خبيراً بأفانينها ومعرفة واسعة بالناس والأقوام والحياة. يدل على ذلك محاورة جرت بينه وبين الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك (99هـ). عُين والياً على الشمال الإفريقي سنة 86هـ. ولما استقرالإسلام هناك، بدأ يفكر في تنفيذ رغبة قديمة، مَدُّ رواق الإسلام وحمل رايته لما بعده، إلى ما وراء البحر: نحو أوروبا، شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال). وفعلاً بدأ الإجراءات التي لابد أن تبدأ بأخذ موافقة الخليفة الوليد بن عبدالملك (96هـ)، لكن الوليد لم يوافق، خوفاً على المسلمين من البحر. فرد عليه موسى أنه ليس ببحر زَخّار، فأجاب الخليفة: وإنْ.. جربها بالسرايا. عندها جهز موسى حملة استطلاعية من 400 راجل ومائة فارس، أبحروا في رمضان سنة 91هـ، من مدينة سبتة، بقيادة طَريف بن مالك (بربري)، لترسو سفنُهم عند رأس أرض في الجهة الإسبانية، على فم المضيق من جهة المحيط الأطلسي، عُرِفَ وحتى اليوم باسم قائد الحملة التي اختبرت المكان وعادت من حيث أتت بالأخبار المشجعة. فما كان من موسى إلا أن بدأ يجهز لحملة الفتح. وما إن أتم موسى تجهيز الجيش واختار طارق بن زياد (بربري) قائداً لها، حتى ركب سفنه من سبتة، في رجب سنة 92هـ لترسو على الجبل الذي حمل والمضيق اسمَ القائد، حتى اليوم، وبجميع اللغات. وتَجَمّع هناك لطارق جندُه السبعة آلاف. لكن القُوط حكام شبه الجزيرة جمعوا جيشاً كثيفاً، لدى سماعهم بهذه الأنباء. وهم أمة حرب، ما عَرَفَت الهزيمة قبل ذلك طوال قرنين، خلاف ما يُزْعَم من ضعفهم، كي يحرموا المسلمين من مزية النصر العظيم الذي حققوه، رغم التفاوت في كل شيء لصالح القوط. عندها كتب طارق إلى موسى يطلب منه مدداً، وكان من خمسة آلاف، أُرسلت إليه بقيادة طريف كذلك. اكتملت عِدّةُ الجيش الإسلامي اثني عشر ألفاً باتفاق، كان كلهم من البربر، غير بضع عشرات، كانوا من العرب. ويعلل الظلمة المُزَوّرون ذلك: أن العرب دفعوا بهم إلى هذه الأرض الجديدة، فإن كان قتلاً فهم سالمون، وإن كان غُنماً فهم يَعْبُرون! والحق أن البربر هم الذين ترجوا موسى في ذلك، قائلين: يا أمير، أنتم العرب أسلمتم قبلنا وجاهدتم، ونحن تأخرنا. فاسمح لنا نتولى هذا الجهاد، تعويضاً لما فات. فابتسم موسى فرحاً بهذا الصدق والإخلاص، مستجيباً لهم، وكان. وهكذا فإن هذا الفتح العظيم، جلله الظلم بهذه الأكاذيب؛ لِيُذْهِب روعته وجماله وقوته التي لا تخلو من نسمات المعجزة صنعها أولئك المجاهدون بهذا الدين. ولا بد من معرفة أن هذه المظالم غطت الكثير مما حققه المسلمون من نصر فريد، بجهادهم وقياداتهم، وعلى رأسهم الأمير موسى في هذا الفتح المشهود. وليس هنا موضع التفصيل، وإنما تُساق نماذج لمعرفة أي ظلم فظيع أُنزل. كان اللقاء بين الجيشين الإسلامي والقوطي المتفوق في العُدة والعدد وفي كل شيء، والذي بلغ تَعْدادُه نحو مائة ألفٍ أويزيدون، بقيادة ملكهم لُذْرِيق، وهو عسكري معروف، في ميدان واسع في منطقة شَذُونَة جنوباً. وبدأت المعركة الحاسمة يوم الأحد 27 رمضان سنة 92هـ (19-7-711م) ، واستمرت ثمانية أيام أو تزيد؛ دليلاً على شدة القتال، وليس كما يقال عن ضعف القوط، فأَنْزل اللهُ نصره على المسلمين، واسْتُشْهِِد منهم ثلاثة آلاف. وقتل من القوط كثير. وبعد سنة عَبَرَ موسى، في رمضان سنة 93هـ بثمانية عشر ألفاً، نجدةً. واستمر الفتح حتى بلغ شَمالي البلاد، بقيادة رَئيسَيْه موسى وطارق. وتعليل سبب عبور موسى إلى الأندلس، تَجِدْه في قاموس الظلم يقول: حسداً لطارق الذي ذهب بشرف الفتح. بينما حقيقته: أنه كان لمعاونة طارق الذي توزع جيشُه، وخوفاً أن يُحاط به. فتح موسى المناطق التي لم تُفْتح وراء طارق. لذلك لم يلتقِ موسى به إلا بعد سنة من عبور موسى نفسه؛ أي في أوائل 94هـ. وتقدم القائدان حتى أتما أو كادا فتح هذه الجزيرة القارَّة (مساحتها قُرابة 600 ألف كم2). عندها استدعى الخليفةُ الوليدُ موسى وطارقاً إلى دمشق؛ مشدداً في ذلك ومؤكداً، فلم يكن بد من الاستجابة، طاعة وخضوعاً وتنفيذاً لأمر الخليفة، في هذا وغيره، وهو شأنهم وديدنهم على الدوام. وهنا.. لماذا كان هذا الاستدعاء العاجل؟ أجاب الظلمة : أنه وصل إلى علم الخليفة أن موسى يريد الاستقلال بالأندلس عن الخلافة ! حاشا وحاشا لله. أية فِرْيَة رعناء! أما الحقيقة الواضحة المؤكدة الجلية فهي: أن موسى كان يريد استمرار الفتح هناك، حتى يَعْبُر جبالَ البُرْت، نحو فرنسا مستمراً في ذلك.. إلى ما يشاء الله، فاستدعاه الخليفة، ليوقف هذا المشروع، خوفاً على المسلمين، لِمَا يَعْرِف من همة موسى وقوة حجته. أرأيت بنفسك الأمر إذن: كيف تَراهُ فتقرؤه؟ |
طارق بن زياد..القائد المُبدع والرائد المُسْرع د. عبدالرحمن علي الحجي الحلقة الرابعة كثيراً ما أتخيلُ صوراً لأعلامنا،لا سيما الذين تمتد معهم الصحبة وطارق بن زياد من أوائلهم مضى على ذلك سنوات، ولو حاولتُ رسمَها لوحة، لتمت، ولكني أُقَدّمها بكلماتٍ: تصورتُه رجلاً مديداً، قاد جيشه عبر المضيق بملابسه البيضاء وشَعْرِه الكستنائي المتدلي تحت العمامة، ينظر بعينيه الزرقاوين الثاقبتين إلى الطرف الآخَر من المضيق، رافعاً يديه إلى السماء، داعياً الله سبحانه وتعالى بالنصر المبين لدعوته وإعلاء راياتها. طارق بن زياد: بربري من قبيلة نَفْزَة، شارك مبكراً في أعمال الفتح في المغرب الأقصى، يمتلك مهارة ًونبلاً وإخلاصاً للإسلام، اختاره الأمير موسى بن نُصَيْر قائداً للحامية العسكرية في مدينة طنجة، وكانت سِنُّه نحو 28 عاماً، ثم اختاره قائداً لحملة الفتح الأندلسي، لِمَا أسْلَفه من سابقات الجهاد. أبحر طارق من مدينة سبتة Ceuta،بالآلاف السبعة، في آخر أفواجه،5 رجب سنة 92هـ(711م)، عََبْرَ المَضِيق الذي حمل اسمَه (جبل طارق Gibraltar) وإلى ما يشاء الله بجميع اللغات مكافأة دنيوية وما عند الله أبقى. ولما كان في مياه المضيق أخذته غفوة، رأى فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فبشره بالنصر وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد.. بَشَّر أصحابه، فازدادوا ثقةً ومُضِيَّاً وعزيمةً. ولما وصل الجبل فوجئ بجند القوط عند ساحله، فما عساه يفعل؟ حالاً أضمر فكرة مُبْدِعة: أصدر أمره بالعودة باتجاه سبتة، حتى خيم الظلام، أوقفوا مراكبهم للعودة إلى الجبل والرسو خلفه.. لكن كيف يرتقونه، والقطع عالٍ منحدر عمودياً؟ تم ذلك بما لديهم من حبال ومجاديف، يَسْحَب أحدُهم الآخر!! ولولا أن طارقاً يعرف نوعية جنده، لاستحال تنفيذ الخُطة، فهل هؤلاء بحاجة لحرق السفن ليقاتلوا؟ عندها نزل طارق ليلتحق بالذين سبقوه، إعداداً للمرحلة القادمة. وهؤلاء الذين سبقوه، جرت لهم حروب مع القوط، بقيادة تُدْمِير أكبر قادتهم وأشهرهم كلما نزل فوج جديد، ينهزم حتى كتب يستنجد ملكهم لُذْرِيق Rodrigo، قائلاً: أيها الملك، أدركني فقد حَلَّ بأرضنا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء!! "نعم، إنهم من أهل الأرض بمنهج السماء".. ثم جاء للمسلمين خمسة آلاف مدداً، وتجمع جيش القوط نحو مائة ألف أو أكثر. زِدْ لهذا التفاوت، الروحَ المعنوية العالية للقوط، جاءوا بعربات تحمل الحبال، لربط أسرى المسلمين، وهذا يدل على قوتهم، وليس على ضعفهم كما يُزْعَم، وإلاّ فكيف استمرت المعركة ثمانية أيام أو تسعة؟ كان اللقاء في منطقة شَذُونَة جنوباً يوم الأحد 28 رمضان سنة 92هـ (19-7-711م)، حتى يوم الأحد التالي، قاتل الفريقان خلالها قتالاً شديداً وصبرا صبراً عظيماً، وأنزل الله تعالى نصره المبين على المسلمين، واسْتُشْهِد منهم ثلاثة آلاف، وقتل من القوط كثير. فهل يصدق أحد أن أهل هذا التدفق الإيماني، الذي حملهم على تحقيق أسمى الأهداف: نَشْرُ دين الله تعالى، بحاجة إلى حرق طارق للسفن ليستميتوا، أو يخاطبهم مُرَغّباً بإغرائهم بالبنات الحِسان التي تمتلئ بها الجزيرة؟! ألا يعني هذا الظلم الكثيف أن طارقاً وجنده جاءوا إلى هذه الجزيرة بدوافع دنيوية فحسب؟ وكيف يمكن أن يقوم طارق بكل ذلك لحساب نفسه لا غير! لكن طارقاً ينطلق بأكثرالجند المتبقي إلى مدينة إسْتِجّةEcija , ليَبْعثَ منها سرايا لفتح مدن جانبية، متجهاً إلى العاصمة طُلَيْطلة Toledo، كيلا يترك للقوط مجالاً للتجمع، بل لحقهم إلى ما بعدها، وعاد إليها ينتظر الأمير موسى. فهل يمكن أن يكافئه موسى ضرباً بالسوط أمام جنده البربر، أو يهم بقتله؟ فهل هذه سياسة تتحقق بها مثل هذه الإنجازات الفريدة؟!! لكن من الظلم المكثف: ادعاؤهم قيام طارق بتلك التضحيات ليحقق زَواجَه من الزهراء ابنة موسى حسب اتفاقهما، عِلْماً بأنه ما كان لموسى مثل هذه البنت المزعومة! ثم انظر الظلم الحقود الأسود، فَرّخ أن طارقاً سرق ذهباً.. أليس شَرُّ البلية ما يضحك، ولكنه ضحك كالبكا،أو أشد أنواعه! حين أَتَمّ القائدان المجاهدان فتح الشمال، قال طارق لموسى: "أيها الأمير، والله لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنتهِ إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي"، وقد بَرَّ بقسمه ووفى بوعده، وخاض البحر، منتهى تلك الوجهة عند مدينة خيخون Gijon، على خليج بسكاي.Bay of Biscay عندها عاد القائدان الكريمان إلى دمشق، أواخر سنة 96هـ، حسب أمر الخليفة الوليد، ثم لم نكد نسمع عن طارق بعد ذلك شيئاً، وهنا تتوقف أخباره، وتنتهي هذه الحلقة. |
عبدالعزيز بن موسى بن نُصَيْر .. رائب الصدع وفاتح شرق الأندلس وغربه بقلم : د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الخامسة عبدالعزيز بن موسى بن نصير: ظُلِم مرةً وغُمِط دَوْرُه أُخرى.. ظلم بتشويه ما عُرِفَ من عمله، وغمط بجهل دوره الكبير في إتمام فتح الأندلس، الذي بدونه كاد أو كان سيضيع، فثبت أركان هذا الفتح العظيم. وهو أحد أولاد موسى بن نصير، ونعرف منهم خمسة، كلهم مجاهدون. هو وعبدالله (أكبرهم) وعبدالملك وعبدالأعلى ومروان الذي يقال إنه (أو أحد ممن) قتل "لذريق" ملك وقائد القوط في معركة شذونة. أما غمط حقه، فقد حجب الكثير مما قدم من دوره الجهادي في الأندلس، حيث يتزاحم مع ما قدمه أبوه موسى وطارق. ثلاثتهم أتموا الفتح، وبجهودهم المباركة تكاملت عمليته الباهرة. فعندما ترك موسى وطارق الأندلس في ذي الحجة 95هـ ، عُيِّن عبدالعزيز والياً واتخذ إشبيلية عاصمة للأندلس. واستمر أكثر من سنتين، حتى مقتله. بدأ الوالي عبدالعزيز بترتيب وإقرار ما تم فتحه وتثبيت واستكمال ما لم يتم، فقام بكل ذلك وأداه بأحسن وجه، فكان أول والٍ للأندلس، وضع أُسساً للسياسة الإسلامية اقتفاها الولاة بعده. كان عبدالعزيز تقياَ صواماً قواماً قوياً وحريصاً، مع نشاط وإقدام، كما كان إدارياً وعسكرياً ماهراً،إلى جانب حبه للإصلاح والقيام به دون تأخر. نظم أحوال البلاد، لم يثنه ذلك عن إتمام الفتح، قضى على الجيوب.. أشادت مصادر بجهوده لخدمة الأندلس، حيث "ضَبَطَ سُلْطانَها، وضَمَّ نَشَرَها، وسَدَّ ثُغورَها، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة، مما كان قد بقي على أبيه موسى منها، وكان من خير الولاة، إلا أن مدته لم تََطُُلْ". وكانت سياسته تجاه المجتمع تتسم بالرفق والاعتدال والوفاء بالعهود في كل الظروف، حتى لو فَوّتَ نفعاً. فلم يحدث أن نقض المسلمون عهداً أبرموه أبداً. وكان عبدالعزيز من أول من سار بهذا النهج الإسلامي الفريدالمشهود، حتى حين خدعهم "تدمير"، لكنهم مضوا على الوفاء له، وكان الوفاءُ عادَتَهم. إن المتابع لما ورد في المصادر عن عبدالعزيز يجد ما يذهله من سعة الفجوة بين واقعه وكثير مما ورد عنه فقراً ومكراً، لنوعيته الفذة ونشاطه المتنوع المتقن. ولدى تدبرها وإمعان النظر في حياته، ليعجب كيف غيمت وخيمت عليها من الظلم الذي شمل مرة تحجير وتضمير سيرته وأُخرى تشويه ما تبقى منها، أو إن شئت القول إنها توزعت بين الحجب والشجب، وهو في كليهما مظلوم. فلا بد من المتابعة لمعرفة ما غاب من أخباره والعمل على تجلية حقيقة ما حضر منها، لكن الاستدلال بالقليل الجيد من أخباره ليدل على فخامة وضخامة وكرامة ما قدمه كماً وكيفاً. تذهب بعض المصادر إلى أن عبدالعزيز تزوج أرملة لُذْرِيق ملك القوط، واسمها أجيلوناEgilona) أيْلُهْ) ويسمونها : أُم عاصم. وغير واضح إذا كانت قد أسلمت، ولا أستبعده لا سيما بعد الزواج، وأُرشح أنه أقدم على ذلك لكسب وُدِّ قومها القوط ، وإلا فالتوقع أنها كانت كبيرة، ولا مانع من قبول هذه الرواية، والأمر مألوف لا سيما في الأندلس. لكن هنالك مانع وألف مانع من قبول بقية القصة ، وهي أنها دعته للتنصر ففعل، وألبسته التاج كالملوك، ووضع مدخلاً يضطر الداخل إليه للانحناء!! ولذلك قُتِلَ. الغريب.. من أين أتت هذه الحكاية؟! ألا يمكن أن تكون كنسية؟ لا فرق بينها وبين حكاية ابنة يُلْيان وفتح الأندلس، بل أكثر إغراقاً. كيف يمكن أن يُقْبَل هذا لإنسان تموج حياته بالتقوى والزهد والجهاد، ومن أُسرة معروفة به. وفي أقل القليل أنه بعد توليه الأندلس استمر في الفتح والجهاد، وحتى حياته الخاصة بقي في بيته البسيط القريب أو المجاور للمسجد الذي كان ملتقى المسلمين ومجمع مداولاتهم وموضع عبادتهم، الذي كان هو يؤمهم فيه، حتى لدى مقتله في صلاة الصبح، وكان يمكنه أن يسكن أحد القصور المتاحة له، حيث كانت إشبيلية إحدى عواصم أربعة يتداولها القوط. الذي يبدو أن بعض أولاد موسى دخلوا الأندلس مع أبيهم (92هـ) مجاهدين، كان منهم عبدالعزيز ومروان، وكُلِّف كل منهما بمهمات الفتح. وأن عبدالعزيز كان في ركاب والده خلال فتحه لمدن قبل طليطلة، فوجهه لاستكمال أو إعادة فتح إشبيلية، ثم فتح لَبْلَةNiebla وباجة Beja (البرتغال)، وأقام بإشبيلية عقب شوال سنة 93هـ، ويوم ترك موسى الأندلس عام95هـ اختاره والياً. لكن لدينا معلومات أن عبدالعزيز خلال ذلك، فتح مناطق في شرقي الأندلس قبل ابتداء ولايته من مثل تُدْمِير، ووقع مع أهلها صلحاً، وهي من الوثائق الأندلسية القليلة التي وصلتنا، ونصها: "هذا كتاب من عبدالعزيز بن موسى لتدمير... رجب سنة 94هـ". والظاهر أنه فتح مناطق هناك، ربما قبل ولايته وخلالها في شرقي الأندلس لعله حتى بلنسية Valencia وكذلك في غربيه، حتى استقرت الأمور، ثم قام بالتنظيم والحفاظ على أهداف الفتح والعمل على إقرار الأوضاع. |
ابن النفيس.. الطبيب الرائد والمبدع الواعد (1/3) د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة السادسة ابن النفيس : علاء الدين علي بن أبي الحَزْم القَرْشي، أو الحَرَم القََرَشى ( 607 687 هـ = 1209 1288م). أصله من مدينة قّرْش، فيما وراء النهر، أوقَرَش قرية قرب دمشق. مولده في دمشق، حيث تلقى العلوم في القرآن الكريم والحديث الشريف واللغة والأدب والتاريخ والطب الذي عرف به وبرز فيه ، أكثر من غيره. أصبح من أعلامه وكبار أئمته ، "وكان علاء الدين إماماً في علم الطب لا يُضاهَى في ذلك ولا يُدانى، استحضاراً واستنباطاً... وله فيه التصانيف الفائقة والتواليف الرائقة" كما يقول صديقه وزميل دراسته في دمشق والقاهرة للطب: موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن أبي أُُصَيْبِعة (668هـ =1270م) في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء". بدأ دراسته الطبَ في دمشق ، إثر أزمة صحية ألمت به سنة 629هـ = 1231م، وكان عمره حينئذٍ 22سنة ، وذلك من أجل أن ينفع الناس. وهذا ما تنشئة البيئة الإسلامية، العلمية الكريمة الإنسانية. كان كريم النفس حسن الخلق صريح الرأي، متديناً على المذهب الشافعي، بل ويُعْتَبَر فقيهاً شافعياً. رحل الإمام العلامة الموسوعي ابنُ النفيس إلى القاهرة. غدا هناك رئيس أطباء مصر، عمل في البيمارستان المنصوري (مستشفى قلاوون حالياً)، أكبر مستشفياتها وقتها، كان مُشْرِفاً عليه (مديره)، بجانب رئاسته الأطباء حتى وفاته. ابن النفيس طبيب أولاً، ثم فيلسوف وفقيه، ألَمَّ وحاز العديد من العلوم، عُرِفَ ببعضها. ففي الطب له العديد من الكتب تأليفاً، من مثل: الموسوعة الطبية النادرة أو العديمة المثال: "الشامل في الصناعة الطبية". وهي أضخم موسوعة طبية في التاريخ الإنساني يكتبها شخص واحد. كان قد وضع مسوداته لتأتي في ثلاثمائة مجلد، أنجز منها ثمانين مجلداً ووهبها جميعاً وكل مكتبته ودارَه وأمواله، وقفاً إلى المستشفى المنصوري. وكان في القاهرة قد ابتنى داراً وفرش إيوانها بالرخام، ولعلها كانت مجلس علمه ولقاءاته ودروسه، غير بيت أسرته أو ملحق بها. وبالتأكيد فإنه أَوْقَف ذلك تديناً وليس لأنه لم يكن متزوجاً، كما توهم البعض. فهو أبو محمد(تبركاً) أحد أولاده. وقد شاهد المجلدات الثمانين هناك كاملة ابنُ فضل الله العمري(749هـ = 1349م) ، صاحب موسوعة المسالك والممالك ، التي يقوم المجمع الثقافي في أبو ظبي بطبعها. ويعتبر الشامل ثالث موسوعة في الطب الإسلامي، بعد الحاوي لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي (320هـ = 933م)، والقانون للرئيس أبي علي الحسين بن عبدالله بن سينا ( 428هـ = 1037م). والموسوعات العلمية سمة من سمات حضارتنا الإسلامية. طريقته في التأليف: كان يكتب من حفظه وتجاربه ومشاهداته، إذا أراد التأليف تُجَهّز له الأقلام مَبْرِيّة، ويبدأ الكتابة من خاطره مثل السيل إذا تحدر، فإذا كلَّ القلمُ رَمَى به وتناول غيرَه، لئَلا يَضيع الوقتُ في بَرْيِه. وقال عن مؤلفاته : " لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها". لعله يشير بذلك إلى أن مؤلفاته، فيها من السبق والمادة العلمية التي يبقى الناس يحتاجونها ويرجعون إليها، ناهلين منها مثل هذه المدة. وهكذا نرى أنه، بعد قرون من الإخفاء والإبعاد والظلم، يهيئ الله تعالى من يعيد الحق لأهله، إلى درجة أن ما كتب عنه وعن مكتشفاته باللغات الأوربية أكثر مما كتب بالعربية. فالحق لا يضيع، بل يقيض الله سبحانه وتعالى له من أهله أو غير أهله، من يرعاه ويظهره أو يدعو له، ولا يضيع حق وراءه متابع، ولو بعد حين. وتلك سنة الله في خلقه وعدله وحكمته. كان ابن النفيس يتمتع بعقلية قوية مستقلة فاحصة، فلربما كان من أول من قال برفض كلام الطبيبين اليونانيين الشهيرين: أَبُقْراط "الذي يُعتبر أبا الطب" مثلما كان يغض من كلام (Hippocrates) 460-377))، (A.C.) وجالينوس "الذي يُعَدّ أكبر الأطباء في العصور القديمة" (Galen)، (127-200)، (A.D.) واصفاً إياه بالعَيِّ والإسهاب الذي ليس تحته طائل، ولا يَنظر إلى كلامه بكثير من الاعتبار، بل يراه ضعيفاً ومملاً وخاوياً، في وقت كان من الصعب أن ينقده أحد. ولثقة ابن النفيس بنفسه وعلمه وعمله، أنه لم يُلْقِِ بالاً كبيراً إلى قدامى الأطباء وعلمائهم، وما يُكِنّ لنظرياتهم كبير احترام، وكان قاسياً في نقده لهم. ولعل هذا بسبب عبقريته المتمكنة وعمق فهمه وشمول علمه، لتأكده من صحة ما لديه. وبهذا تمت له إبداعاته وكشوفاته وسبقه. وهو شأن الحضارة الإسلامية وحقيقة إبداعاتها وسمو منجزاتها، حيث ابتنت مجتمعاتها على الإسلام عقيدة وشريعة، الذي وهبها هذا التقدم المتميز الإنساني، في وقت كان الجهل والتوحش والظلمات تموج بالشعوب والأقوام والدروب من حولهم، وهي التي قدمت للعالم هداياها الكريمة ابتداءً، النور والعلم والحضارة الفاضلة، مَنْ قَبِل به أو بثماره، وإن أنكر بعضهم مصدرها، أو ذمها بل ومن عاداها، وهو يُسْعَد بثمارها! |
ابن النفيس.. الطبيب الرائد والمبدع الواعد .. مؤلفاته (2/3) د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة السابعة شرح ابن النفيس عدة كتب طبية لمن سبقه مثل: كتاب "القانون" لابن سينا (428هـ =1037م) في عشرين جزءاً ، وموجز القانون (اختصر به قانون ابن سينا) ، وهو كتاب كبير في الطب. كما كَتَبَ ابن النفيس في الفلسفة والمنطق ، فله كتاب فاضل بن ناطق ، بمنحى متميز ، معارضاً أو على نسق كتاب ابن طُفَيْل الأندلسي : أبو بكر محمد بن عبدالملك (581هـ = 1185م) في كتابه حَيّ بن يقظان ، أو لابن سينا بالعنوان نفسه ، كذلك نجده صنّف في أصول الفقه والفقه والحديث والعربية والتاريخ ، وله كتاب: المختصر في علم الحديث، والرسالة الكاملية في السيرة النبوية. ولذلك أفرد له السُبْكِي ترجمة في طبقاته الشافعية الكبرى، باعتباره أحد فقهائهم (5-129. انظر كذلك : شذرات الذهب ، 5-401، دول الإسلام للذهبي 2-143، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أُصَيْبعة ،414 وما بعدها. مقدمة محقق كتاب الشامل ، الدكتور يوسف زيدان ، 1-453 ، والدكتور يوسف مهتم بابن النفيس ، فله كتاب عنه : علاء الدين (ابن النفيس) القرشي إعادة اكتشاف. الأعلام، الزِّرِكْلي ،4-271270، تلخيص مجمع الآداب ، ابن الفوطي ،2-117 118، النجوم الزاهرة ، ابن تَغْرِي بَرْدِي 7- 373، مسالك الأبصار ، ابن فضل الله العمري 9-620615، تحقيق بسام محمد بارود ، حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ، جلال مظهر349364). كان ابن النفيس إماماً متقدماً في علم الطب راسخاً فيه ، فاق به كثيراً غيرَه ، ولعله يعتبر أول أو أكبر من دَرَسَ وعَرَفَ علم وظائف الأعضاء (Physiology) . وكان من عاداته أنه "لا يصف دواءً ما أمكنه أن يصف غِذاءً، ولا مُرَكّباً ما أمكنه الاستغناء بمفرد"، وهذا دليل على فهمه وإدراكه الجيد وبراعته في العلاج. كما يعتبر بحق أول من عرف ووصف الدورة الدموية الصغرى (الدورة الرئوية) ، وأول من أشار إلى الحويصلات الرئوية والشرايين التاجية ، وربما كذلك يعتبر مكتشف الدورة الدموية الكبرى!! حيث لايجوز توقيف جهوده عند هذه الحدود رغم ريادتها بل إن هذا كله بعض مساهماته ، في ميدان مهنته ، التي أغناها بالمبتدعات المتنوعة. ثم تأكيده على الجدية في العمق وتبني المنهجية الأمينة الرصينة وقواعد العلم المتينة ، والمنهج العلمي التجريبي الجاد المتجدد ، وعلى قواعد البحث العلمي المترقية ، إلى اعتماده التجرِبة (الدُّرْبة). إن أبكر مَن كتب عن الدورة الرئوية مِن الأطباء الأوروبيين ، كان بعد ابن النفيس بنحو ثلاثة قرون ، رغم أنه لم يكن كشفاً حقيقياً من قبلهم ، بل اعتماداً كلياً على ما تُرْجِم لهم من العربية إلى اللاتينية مما كتبه ابن النفيس وغيره ابتداءً، ممن سبقه أو لحقه. لقد تناول ابن النفيس الحديث عن الدورة الرئوية في أكثر من مكان في مؤلفاته ، لا سيما في شرحه لقانون ابن سينا : شرح تشريح القانون ، وهذا قد يشير إلى أن ابن النفيس كتب عن ذلك في بواكير سني نضوجه في العلوم الطبية ، وظهر تقدمه فيه ، مع أن أُولئك الأوروبيين لم يشيروا إلى ذلك أو يعترفوا به!! وإنما نسبوه لأنفسهم. أليس بذلك يصح قول من قال: إن الحضارة الإسلامية سابقة للحضارة الأوروبية بخمسة قرون أو تزيد بمقدار كبير، باعتراف بعض أهلها (حضارة العرب ، 568 حضارة الإسلام 525)؟ وفارق آخر هو: أن الحضارة الإسلامية قدمت ما قدمته ابتداءً ، ومن ركام دراسات سابقة في هذا الأمر ، لا تسمن ولا تغني من جوع ، كانت في ادعاء مكان الإمامة التي لاتُخالَف. ولقد اعتمدت الحضارة الأوروبية كل الاعتماد على ما تُرْجِم إليها من الحضارة الإسلامية ، ولو أخذتها كلها بمبناها ومعناها وفحواها ، لاكتملت أركانها وقيمها وإنسانيتها ، وما أخذته مما عداها ، خربت به بنيانها الإنساني وذهبت بها الرياح يمنة ويسرة. وللعلم فإن كلمة أو مصطلح التكنولوجيا ، هو من الكلمة العربية : التقانة أوالتقنية (Technology). إن العديد من الكتب العلمية التى نُقِلَت إلى الغرب لا سيما الطبية بقيت هي نفسها تُدَرّسها الجامعات الأوروبية لنحو ستة قرون، لا سيما جامعة مونبلييه الفرنسية، التي كانت مَعْقِلاً لتدريس كتب الطب الإسلامية والأندلسية ، (Montpellier) وحتى عهد قريب ، إلى حد أن بعض أساتذتها كان من الأندلسيين ؛ علماً أن المسلمين لم يحتاجوا إلى نصف هذه المدة ليبدعوها ابتداءً. حديث ابن النفيس المتكرر لمرات عدة عن الدورة الرئوية (الدورة الدموية الصغرى) ، يدل على فهمه لها ووثوقه من اكتشافه العلمي الرائد هذا، ومعرفته الواضحة لوظيفتها وطريقة عملها ، ناقداً ومفنداً ومعارضاً ، حتى آراء ابن سينا الذي تابع جالينوس واعتمد عليه رغم أن ابن النفيس هو الذي شرح العديد من كتبه. فعل ذلك مبيِّناً : أن أطباء "اليونان لم يفهموا وظائف الرئتين والأوعية التي بين القلب والرئتين ، وأنه فَهِمَ وظيفتَها وأوعيتَها وتركيبَ الرئة والأوعية الشَّعْرية ، التي بين الشرايين والأوردة الرئوية. وشَرَحَ الفُرَج الرئوية شرحاً واضحاً ، كما فَهِمَ أيضاً وظائف الأوعية الإكليلية (التاجية) ، وأنها تنقل الدم ليتغذى القلب به، ونفى التعميم القائل: إن القلب يتغذى من الدم الموجود في البطين الأيمن". |
|
جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الخليج - © Kleej.com
( 2007 - 2025 )
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر العضو نفسه ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى