منتدى الخليج

منتدى الخليج (https://kleej.com/vb/index.php)
-   قسم المواضيع الإسلامية والقرآن الكريم (https://kleej.com/vb/forumdisplay.php?f=4)
-   -   المظلومون في تاريخنا !! (https://kleej.com/vb/showthread.php?t=5237)

القاضي الفاضل 07-07-2008 03:57 AM

ابن النفيس.. واكتشاف الدورة الدموية الصغرى (3/3)

د. عبدالرحمن علي الحجي
أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي

الحلقة الثامنة

اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى ، وهي دورة الدم في الرئتين ، حيث يخرج الدم من البطين الأيمن من القلب ، في الشريان الرئوي إلى الرئتين ليُنَقّى (يأخذ الأُكسجين من الهواء فيها ويُطْلِق ما عداه) ثم يعود إلى البطين الأيسر من القلب، ليتغذى به الجسم.

Bloods Circulatory System Blood Pulmonary
Circulation
Lesser circulation (Sp. La Circulacion Pulmonar)

لكن المعروف الشائع، الذي يدرس في كليات الطب عموماً حتى الآن ، أن علماء وأطباء الغرب هم مَن اكتشفها ، شأنها شأن المنجزات الأُخرى العديدة والكشوف الرائدة للعلماء المسلمين ، الذين ملأوا الميادين بعلومهم وإبداعاتهم.

لكن شيئاً فشيئاً تتكشف الحقائق ويعود المفقود لأهله ، ويُنْقَذ من الظلم والإنكار والتجهيل ، الذي يوجب بديلاً أن يكرم ويُجاز ويُقدم.

تنازع هذا الاكتشاف الذي نسبوه لأنفسهم ، عدد من أهل الغرب ، فيدعي الإنجليز أنه لطبيبهم وليم هارفي ( 1557-1578 م ).

ومثل ذلك فعل الإسبان ، فنسبوها إلى أحدهم ، ميخائيل سيرفيتوس (29/9/1511 -/10/1553م) ، إسباني من شمالها ، لعله من مدينة تُطَيَلة (أرغون) الذي لم يكمل دراسته طبيباً ، وإنما دَرَسَ الطب في جامعة السوربون في باريس ، ولم يكملها ، لاتهامه بأمور دينية ، لكنه اشتغل بالطب فيما بعد. كان مهتماً أكثر من ذلك بالأمور الدينية المسيحية وعقيدتها ، مما جعله يؤلف باللاتينية العديد من الكتب في هذه الموضوعات. ثم كتب مؤلفاً في إحدى موضوعاتها ، ضمنه أجزاء من كلام ابن النفيس ، كان مُتَرْجَماً إلى اللاتينية لم يُشِرْ إليه.

كتابه الجديد والأخير طبع باللاتينية أوائل سنة 1065هـ = 1553م ، يتحدث عن العقيدة المسيحية ، وجعل عنوانه (عودة المسيحية ) ، تعرض في هذا الكتاب إلى أمور في الطب ، عارض فيها آراء جالينوس الطبيب اليوناني في موضوع الدورة الدموية ، لكن جُلَّه متعلق بأمور في العقيدة الدينية مخالِفاً للكنيسة ، وحتى لآراء المصلح الديني واللاهوتي الفرنسي البروتستانتي الشهير "كالفن" (1509 - 1564 م) الذي حمل راية الإصلاح الديني في فرنسا وسويسرا. كان سيرفيتوس قد نقل بعض كلام ابن النفيس عن الدورة الدموية ، دون إشارة ، كأنها من كلامه.

وألقت الكنيسة القبض عليه في فيين بفرنسا ، إلا أنه هرب من سجنه فاراً متنكراً حتى جنيف عَبْرَ أيطاليا ثم عُرِفَ فأُلقي القبض عليه وحوكم من قبل الكنيسة والبروتستانت الكالفنيين ، وحكم عليه بالموت حرقاً. لكن "كالفن" اقترح أن يُقْتَل إعداماً. بينما أصرت الكنيسة على إعدامه حرقاُ ، حيث يُشَدّ إلى عمود (خازوق) وتُشْعَل فيه النار، وقد تم.

لقد تأثر بآرائه وموقفه أناس ، كَوَّنوا فهماً ، اتجهوا بعقيدتهم نحو مذهب جديد عُرفوا ب"المُوّحِدون" لايزالون متواجدين متناثرين في عديد من الدول الأوروبية. ثم أُُحْرِقت كتبه بعده. الظاهر أن بعضها نجا ، كان منها كتابه الأخير ، الذي يحتوي نص ابن النفيس المترجم بالواسطة ، والذي يتوافق معه كلمة كلمة ، ولم يشر إليه ، كأنه من إبداعاته.

وهذه الترجمة اللاتينية التي نجدها لدى سرفيتوس في كتابه الأخير كان قد قام بها قبله أولاً سنة 954هـ = 1547م الطبيب الإيطالي أندريا الباجو الذي عاش سنوات في البلاد العربية والإسلامية ، تعلم لغتها وترجم العديد من كتبها إلى اللاتينية ، كان منها لابن النفيس ، ومنها كتابه : شرح تشريح القانون ، حيث يشرح الدورة الدموية الصغرى ، وربما غيرها. وقد شَهِد بذلك مايرهوف ربما على مضض ، حيث عاد عنها ملتوياً قائلاً: "إن مما أذهلني هو مشابهة لا بل مماثلة بعض الجمل الأساسية في كلمات سِرفيتوس لأقوال ابن النفيس التي تُرجمت ترجمة حرفية".

ويقول ألدو ميلي في كتابه بالفرنسية: "العلم العربي ودوره في التقدم العلمي العالمي " : إن بعض فقرات عند سِرفيتوس منقولة كلمة بكلمة من مؤلَّف ابن النفيس".

لكن ابن النفيس بقي مظلوماً قروناً متتالية حتى أظهره كبش الفداء الطبيب المصري اللبيب (دكتوراه الطب) محيي الدين التطاوي، الذي ابتعثته جامعة القاهرة لدراسة الدكتوراه في ألمانيا. وبينما كان يتابع دراسته اطلع على مخطوط لابن النفيس في إحدى مكتبات برلين ، فوجئ مندهشاً بنص فيه ، يتحدث عن الدوة الدموية الصغرى ، فأَطْلَع عليه أستاذَه الذي رغب إليه أن يجعل ذلك موضوع دراسته ، ففعل. كما حثه على إرسال هذا النص إلى جورج سارتون في أمريكا ليجعله في كتابه الكبير (مقدمة لتاريخ العلوم ) ، ومنذ ذلك اليوم بدأت الكتابات بلغات عدة ، في دراسة ابن النفيس متسعة ، وباعتباره هو المكتشف الحقيقي للدورة الدموية الصغرى (والكبرى) وكشوفاته الأخرى ومتعلقاتها.

أما الدكتور الطبيب محيي الدين التطاوي فقد كان هو الضحية ، حيث إنه حين عاد من ألمانيا سنة 1924م إلى جامعة القاهرة بدكتوراه الطب من جامعة ألبرت لدونج (أو فرايبورج) ألمانيا ، في موضوع: "الدورة الدموية الرئوية وَفْقاً للقَرْشي (ابن النفيس)" رفضت كما ذُكِرَ الاعتراف بشهادته ، إلى حد أنه لم يُمنح إجازة ممارسة الطب العام بالبكالوريوس ، فاضطر أن يمارسه متجولاً في القرى طبيباً شعبياً ، ثم مرض نتيجة ذلك ، قضى هكذا محروماً مظلوماً.


القاضي الفاضل 07-07-2008 03:57 AM

الحسن بن الهَيثم مبدع الفنون.. متهم بالجنون!

د. عبدالرحمن علي الحجي
أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي

الحلقة التاسعة

ابن الهَيْثَم: أبو علي (محمد بن) الحسن بن الهيثم البصري، (354 -430هـ) = (965- 1039م) مهندس وفيزيائي وفلكي. ولد ودرس بالبصرة واستقر بمصر، سكن بجوار الأزهر وانصرف إلى التأليف.
كان ملتزماً مغرماً بالعلم متابعاً مبكراً. وُزِّرَ بالبصرة، ثم تركها (الوزارة) إيثاراً للعلم. "كان فاضل النفس قوي الذكاء مُفَنَّناً في العلوم كثير التصنيف ظاهر الزهد".

مؤلفاته فوق السبعين، كثير مفقود، وتُرْجِم العديد للاتينية في بدايةَ حركة الترجمة الأوروبية للعلوم الإسلامية Science )، لا سيما العلوم البحتة، التي استمرت لقرون، من خلال مراكز أُقيمت لهذا الغرض.

والمتابع لما أنتجته الحضارة الإسلامية في العلوم البحتة، يجد آلاف الكتب الضخمة، موسوعات، يُكَوِّن المُؤَلَّف عشراتِ الأجزاء، دليل كثرة النِّتاج العلمي الإسلامي الغني المدرار المتنوع، بأُسلوب مُعَبِّر واضح مفهوم بسهولة، مما يجعلنا نسخر من مقولة: صعوبة العربية لغة الإعجاز القرآني وأنها دون قدرة التعبير عن العلوم ولا تستوعبها، حاشاها، حيث يتأكد دون تردد أن ذلك أحد المظالم، إما نتيجة الجهل أو العداء أو الجري الببغاوي دون تمحيص أو إن شئت جَرْيَ العبيد، لأن العربية أقدرُ لغة.

ومن الأدلة: الكلمات العلمية العربية، حين ترجمت علومها أُبْقِيت، تجد مئات الكلمات، إن لم يكن آلافها. وتتبين هذه البديهية، بوضوح وتأكيد وتحقيق، عند إلقائك نظرة متفحصة في مؤلفات المسلمين العلمية.

وأمر مهم: هو أن العربية غدت عند العلماء الأوروبيين ودارسيهم وَحْدَها لغة العلم، باعترافهم. وبالنسبة للكتب العلمية الإسلامية المترجمة للاتينية وبناتها، كانت الزاد والمورد الوحيد لحركة العلوم وابتداء النهضة في أوروبا.

ومن الطرائف: أن الترجمات تكرر طبعها، وبقيت جامعاتهم تنهل منها لقرون، ثم أمكنهم أن يبدؤوا بإنتاجٍ، آخذين أفكارها، دون الإشارة إلى مصدرها، في الأغلب. والمؤلم أن العديد من هذه الكتب الأُمهات المترجمة ضاع أصلها العربي، ولديهم، نصها العربي. وكم مؤلفات طبعت مترجمة، لم تطبع عندنا.

كان ابن الهيثم عبقرياً فذاً ومبدعاً متفوقاً وسباقاً بعيد الشأو، نبذ آراء السابقين من علماء اليونان وكشف تهافتها. وضع العديد من المؤلفات والبحوث في البصريات وثبت مبدعاً قوانينها.

قدم دراسات الضوء، لا سيما كتابه "المناظر"، لعله ما يزال مخطوطاً، تُرْجِم إلى اللاتينية كله أو بعضه مبكراً، لكنه ترجم كله خمس مرات إلى اللاتينية كاملاً فيما بعد سنة 980هـ = 1572م، مما كان له الأثر البالغ في تعريف الأوروبيين بهذا العلم.

ثم تُرْجِم ونُشِرَ بالألمانية كتابه "كيفية الإظلال"، وكتابه "المرايا الحارقة".

علم البصريات وصل أعلى ذروة التقدم، بجهود ابن الهيثم؛ حيث يعتبر من علماء البصريات القلائل عالمياً، بل: إنه منشئ علم الضوء الحديث.

عارض ابن الهيثم نظريات إقليدس وبطليموس البدائية القائلة : إن العين ترسل الشعاعات البصرية إلى الأجسام المرئية، وبهذا يكون الإبصار! مبيناً أن الضوء موجود في ذاته مستقلاً، وبه يكون الإبصار.

يعتبر مؤسس فكرة العدسات المكبرة وانعكاسات الضوء والغرفة المظلمة، والتي بُنِيَ عليها التصوير الضوئي، وإن عبارة "الغرفة المظلمة" مترجمة حرفياً : (باللاتينية). Camera Obsecu .

يعتبر ابن الهيثم من الداعين والمتبنين والمبدعين لمنهج البحث العلمي التجريبي الذي اقتبسه الغرب ، ويعتبر العالم الإنجليزي روجر بيكون (1292م) من رواده ومن علماء البصريات.

وقد ظُلِمَ ابن الهيثم ثلاث مرات: مرتين من أهله ، ومرة من الغرب.

مرة حين أراد التخلص من عمله في البصرة ليتفرغ للعلم "أظهر خبالاً في عقله وتغيراً في تصوره، حتى تمكن من مراده".

وأخرى لما سمع الحاكم الفاطمي (411هـ =1021م) بفكرة ابن الهيثم أن يعمل للنيل عملاً يحصل به النفع في كل موسم، استدعاه لهذا الغرض، فحضر وذهب لمعاينة النيل عند أسوان ومنطقة الجنادل، ولم يمكنه تنفيذ فكرته، فخاف من الحاكم. فعاد لإظهار الجنون، حتى وفاة الحاكم.

ولكَم توقفت عند هذه الحكاية، التي يرويها العديد، واستغربت منها، حتى وجدت البيهقي علي بن زيد(565هـ) يقول في كتابه "تاريخ حكماء الإسلام": إن ابن الهيثم لما خاف على نفسه من الحاكم هرب إلى الشام وأقام عند أحد أُمرائها.

أما الثالثة : فالغربيون لم يعرفوا شيئاً من ذلك، حتى اتصلوا بالعالم الإسلامي علمياً، فنقلوا علمه، ودرسوه يتعلمونه لقرون، حتى أمكنهم أن يقولوا فيه شيئاً، بناءً عليه أو أخذاً له أو اقتباساً منه، وبعضهم ادعاه لنفسه، من غير إشارة إلى أهله ومنبعه ومبدعه، غير ما كان يفعل المسلمون أمانة.

سار الزمن على هذا المنوال حتى تهياْ من يرد الظلم عن المظلومين، ويعيد الحق لأهله.

اعتمد الدارسون الأوروبيون لهذا العلم على كتاب المناظر كاملاً، منهم: بيكون الإنجليزي(1292م) و كبلر الألماني (1630م) وليوناردو دافنشي الإيطالي ( 1519م)، إلى حد وَصَفَ العالمُ الإيطالي دِلاّ بورتا فيتلو البولندي بالقرد المقلد.

أخذه الكثيرون ولم يعترفوا، دراسات تنسب المبتكرات لغير أهلها.

ولكن وجد علماء ردوا الظلم وأعادوا الحق لأهله.


القاضي الفاضل 07-07-2008 03:58 AM

الناصر لدين الله.. سيرته وخصاله (1/2)

د. عبد الرحمن علي الحجي
أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي

الحلقة العاشرة

مرت الأندلس (إسبانيا والبرتغال)، خلال حياتها ذات القرون الثمانية، بين مدٍ وجزرٍ، في أمور عِدَّة. خَطُّها البياني مُتفاوتٌ في التفوق والتمزق. تمتعت بكثير من الخير فيها، وأحياناً إلى حد الامتلاء، لا سيما القرون الثلاثة الأولى من عمرها، وأولها (أغناها) آخرها (القرن 4هـ =11م).

مسيرةٌ رعاها كثيرون، رُعاةٌ عِدَّةٌ يَقودونها، أمانة وتضحية وفداءً، حِراسةًً لهذا الهرم المجيد الرشيد. منهم في ظاهره، وآخرون حسب مواقعهم. على رأسهم الناصر لدين الله: عبدالرحمن (الثالث) بن محمد، الثامن من حكامهم، دامت خلافته فوق خمسين عاماً (300-350هـ=911-961م).

وَرِثَ جَدَّه عبدالله الذي اعتنى به وقَرَّبه. ومن عجبٍ أنه تولى الحكم وعمره 22 عاماً، رغم مَنْ كان بالحضرة أكابر أعمامه وذويه، الكل بايعه، لم يخالفه أحد، بل كلهم أعانه ووقف معه.

كان شهماً صارماً، كثير الجهاد يقوده بنفسه (نفح1-353).

يحسن اختيار أهل المسؤولية، ويجيد تماماً اصطفاءهم، يحاسب عماله برفق ويعفوعن المسيء، يفي بوعوده وعهوده للجميع، اكتسب ثقة الناس بتواضعه.

كان يقبل نصائح مَن حوله، بل والنقد الشديد، منها: كما جرى له من قاضي الجماعة بقرطبة منذر بن سعيد البلوطي، الذي عَرَّض به مراتٍ في خُطبه وبحضوره (المغرب1-183-185فرحة الأنفس، ابن غالب، 304303، نفح1-570-572).

كان غاية في الذكاء والبديهة، بها يقول الشعر. وله أبلغ التوقيعات.

كان دؤوباً لا تفتر له همة، ذُكِرَ "أنه وُجِدَ بِخَطّ الناصر يرحمه الله: أيامُ السرور التي صَفَتْ له دون تكدير (خلال الخمسين سنة) يومُ كذا وكذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا من كذا (أيام الإجازة والراحة)، وعُدَّت تلك الأيام، فكانت أربعة عشر يوماً! (المغرب1-182 نفح1-379= أزهار2-282 سير أعلام النبلاء 8-266).

كانت الأندلس قبله إمارةً، حاكمها أمير، أعلنها خلافة سنة 316هـ = 929م، استجابة لموقعها في العالم الإسلامي، إذ غدت أكبر قوة سياسية وحضارية فيه، بل ربما في العالم كله، ولا عجب. أصبحت قرطبة قبلةً أو محوراً مركزياً عالمياً، يخطب وُدَّها الآخرون، شرقاً وغرباً، ومن العالم غير الإسلامي، سيما مَنْ حولها، ومن القارة الأوربية.

يسعون جميعاً لطلب صداقتها والتقرب إليها، إلى حد التوسط عنده لحل خصوماتهم وطلب حاجاتهم، في كل ما يَعِنّ لهم، مثلاً، في: طبهم وتعلمهم واستشارتهم. لكن كَثْرةٌ منهم كان لها غيرَ وَفِيّ.

الأخبار الموثقة تؤكد ما ذُكر، بل وتزيد عليه : أن الدروب إلى قرطبة تموج بالقاصدين، تستقبلهم وتلبي حاجاتهم، على نية الوفاء، وتفعل، وذاك سمتها المعروف، غير ما يفعل الآخرون، لا يلتزمون، قليلاً ما يفعلون، إلا لعِلّةٍ خارجة، امتلأت الدروب نحو قرطبةِ الخلافة مُيَمّمين، حتى كبار الحكام والأمراء، والأباطرة الكبار يفعلون. أرسل إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة (ألمانيا) : أوتو الأول، الكبير، سفارةً إلى الناصر سنة 342هـ = 953م، يرأسها كبير الرهبان الألمان : يوحنا (يوحنى) الغرزيني يسأله التدخل والتكفل بإنهاء الوجود الإسلامي لديهم، فكيف يمكن أن يتم ذلك؟ ولأسبابٍ بقيت هذه السفارة في قرطبة ثلاث سنوات، حتى تمت المقابلة، في قصر مدينة الزهراء، في قاعة السفراء: "المجلس المؤنس".

خَيْرُ مَنْ وَصَفَ هذه الوِفاداتِ.. ابنُ حَيّان القرطبي (469هـ)، التي ضاعت، وحفظها ابنُ خَلدون في عبره والمَقّري في نفحه: "ومَدّتْ إليه أُممُ النصرانية من وراء الدروب يَدَ الإذعان، وأوفدوا عليه رُسُلُهم وهداياهم من رُومة والقُسْطَنْطِينِيَّة في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يَعِنّ في مرضاته، ووصل إلى سُدَّته الملوك من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قَشْتالَة وبَنْبُلُونة وما ينسب إليها من الثغور الجوفية (الحدود الشَّمالية)، فقَبَّلوا يَدَهُ والتمسوا رِضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه"، وذلك: "أن مُلْكَ الناصر بالأندلس كان في غاية الفخامة ورفعة الشأن، وهادته الروم وازدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر، ولم تَبْقَ أُمّةٌ سَمِعتْ به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأُمم إلاّ وفدت عليه خاضعة راغبة، وانصرفت عنه راضية" (نفح الطيب,1-354, 366).َ

إذن كيف ظُلِمَ ؟

ربما هناك بعض مظالم لَحِقَته، قَلّتْ أو كَثُرتْ، يُشار إلى اثنتين منها: الأولى: شائعة تُرَدّد قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً. والثانية: تجدها على الأغلب لدى كتاب غربيين، ربما انتقلت إلى آخرين غيرهم.

كلتاهما وَهْمٌ وافتراء، وسوف نشرحهما ونفندهما في العدد القادم بإذن الله.



القاضي الفاضل 07-07-2008 03:59 AM

الناصر لدين الله.. (2/2).. الرد على الافتراءات

د. عبدالرحمن علي الحجي
أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي


الحلقة الحادية عشرة

هناك بعض المظالم التي لَحِقَت بالخليفة عبدالرحمن الناصر.. وسنتناول اثنتين منها:

الأُولى:


حول بنائه لمدينة الزهراء. يقولون: سبب بنائه لها، أن مَحْظِيّة له اسمها الزهراء - إن وُجِدَتْ أصلاً - تبرعت بمال لديها، أو من أخرى سبقتها، لفك أسرى المسلمين. فلما لم يجد أسرى، أو فكهم جميعاً، بقي مال كثير، فرغبت إليه أن يبني لها مدينة جميلة (أو: مُنْيَة = قصر ضخم)، تحمل اسمها لتسكنها، ففعل. فكانت مدينة الزهراء هذه بكمالها!

والحق أن هذه الحكاية غريبة ومضحكة وعجيبة وإنْ ربما بدت لا تخلو من حَبْكَة لمن له معرفة، فضلاًً عن التخصص، بالتاريخ الأندلسي. والظاهر أن طريقة صياغتها، جميلة تُغْرِي بقبولها:

1 - نخوةُ وشهامةُ وتَديُّنُ الزهراء، دعاها إلى التبرع بهذا المال لفك الأسرى، بحيث حرروهم جميعاً ولم يبقَ أسير!

2 - أيُّ مالٍ هذا الذي فك جميع أسرى المسلمين، فيما حولهم، والباقي يبني مثل هذه المدينة؟

3 - محظية : لِمَا تحمل مِن مَيْلٍ قلبي، تثير لها التعاطف واستحسان الاستجابة لرغبتها.

والحقيقة أن موضوع فداء الأسرى شيءٌ آخر، والجمع بينهما تزوير وزور، شَوّه كليهما، وذلك أن "إحدى كرائمه أَخرجت مالاً في فداء أَسارى في أيامه، فلم يُوجد ببلاد الأندلس أَسيرٌ يُفْدَى" (سير أعلام النبلاء 8-268).

لكن بالمقابل:

1 - هذا البناء لم يكن قصراً، بل مدينة خليفية، تحتوي دواوين الدولة وتوابعها وكثير من العاملين، إنها مدينة أكبر من ذلك. إلى درجة أن الخليفة وجه دعوة إلى المجتمع: كل مَن يريد أن يبني فيها داراً، يُقَدّم له مالاً (المُغْرِب في حُلى المَغْرِب1-179).

2 - لم يَذكر أحدٌ من المؤرخين الثِّقات مثل هذا السبب أو حتى قريباً منه، كابن الفَرَضي (403هـ)، وابن بِشْكُوال(578هـ) وابن حَيَّان: الذي ذكر كثيراً من تفاصيل الموضوع ( نفح1-526 528 563 568).

3 - لكن السبب الحقيقي يكمن في شقين التقيا معاً هاهنا :

أ - عُرِفَ عن أُمراء الأندلس حبهم للعمارة وما يتعلق بها، وربما الأمر عام. والخليفة الناصر من أكلفِهم بذلك، شغفأ بالبناء والعُمْران، " كلفاً بعمارة الأرض وإقامة معالمها وإنباط مياهها واستجلابها من أبعد بقاعها" (فرحة الأنفس303، نفح1-570). فأحب أن ينشئ هذه المدينة المتكاملة عاصمة ملحقة، اقتضتها دوافع التقدم والتوسع والرقي، الحضاري والاجتماعي والسياسي .

ب - نظراً لهذا التوسع وقدوم الوفود والسفراء، ومن انتقل إليها من مدن الأندلس الأخرى، غدت العاصمة القرطبية تضيق طرقها ومرافقها، سيما عند قدوم السفراء والوُرَّاد إليها من الآفاق.

أصبح السفراء والناس، يلقون عَنَتاً في الانتقال والاستقبال المتكرر، عند كثرتهم وتتابعهم، خلال سيرهم ووصولهم لقصر الخلافة، قرب المسجد الجامع، وما يحف ذلك من حفاوة الناس والمستقبلين، جنوداً ومسؤولين. كل ذلك حفز الهمة وأذكى الرغبة لإنشاء هذا الصرح المعماري العجيب.

ابتدأ الخليفة الناصر بناء مدينة الزهراء في 1-1-325 هـ. كان المشرف على بنائها كبير المهندسين: مَسْلَمة بن عبدالله، شَمال غربي قرطبة، على بعد نحو ثمانية كم. تقع عند أقدام جبل العروس "الجبل المُنيف المسمى بالعَرُوس، المَغروس بالكروم والزيتون وسائر الأشجار وأنواع الأزهار" (فرحة الأَنْفُس، 296)، هذا أجود اختيار لها، المعروف بجبال قرطبة: فهي متموجة متدرجة متدحرجة.

وفي الترميمات التي تجري منذ عقود، ما زالت مستمرة حتى اليوم، في مدينة الزهراء الخليفية، استعادة لبعض رونقها ومواقعها وأبهتها، منها بقايا قاعة استقبال السفراء "دار الملك" الفخم المعمار، قبل اللقاء بالخليفة في مجلسه المسمى ب "المجلس المؤنس".

حديث مدينة الزهراء غني جداً بالتفاصيل (نفح1-523 528 563 596).

المظلمة الثانية:


جرت أحداث أيام خلافة الناصر، استنتج منها عِدَّة دارسين غربيين، أنه لم يكن متسامحاً مع غير المسلمين في الأندلس، لا سيما النصارى. وكان من أدلتهم على ذلك: أنه خلال المراسلات التي جرت بينه وبين "أوتو الأول"، شتم الناصرُ النصرانيةَ ونبيها، (عليه السلام). لكن ذلك لا يعدو أبداً إلاّ أن يكون اختلاقاً محضاً. فإنه لم يُعْهَد أن أياً من المسلمين فعل ذلك أبداً. كيف والمسلم يحترم كل الأنبياء ( عليهم السلام) ويبجلهم ويؤمن بهم؟ والمسلمون جميعاً وفي الأندلس بالذات، لاسيما أُمراؤهم، والخليفة الناصر من روادهم كانوا في غاية السماحة، ولم يُؤْثَر عنهم غير السماحة.

ثم: ألم تكن عدة دويلات في الشمال الإسباني نصرانية؟ لم يذكرأحدٌ أن جرى بينهم شيء من ذلك في أي وقت؟ بل جرى استخدام العديد منهم في مواقع ومناصب عالية، إلى حد أن سفير الناصر إلى "أوتو" كان راهباً نصرانياً.

عاش غير المسلمين في المجتمع الأندلسي عيشة وفي الأندلس بالذات لم تتهيأ لهم في أي مجتمع آخر، حتى في مجتمع ينتمون إليه : ديناً ولغة ووطناً.

كان التزاوج بين المسلمين الأندلسيين بالذات، من النصرانيات مألوفاً. وإن العديد من أُمرائهم تزوجوا منهن، أسلمن قبل ذلك أو فيما بعد، وذُكِرَ بعضهن بحسن إسلامهن. بل أشارت مصادر منها لاتينية معروفة إلى أن جدة الناصر (أُم أبيه: محمد)، أصلها نصرانية، اسمها وَنَقا، تعرف في المصادرالأندلسية باسم "دُرٌّ"، من نافار(البَشْكنس= الباسك)، حيث تغدو، الملكة الوصية على عرش مملكة نافار عمة الناصر من زواج سابق.


القاضي الفاضل 07-07-2008 03:59 AM

المظلومون في تاريخنا
عباس بن فرناس(1)

د. عبدالرحمن علي الحجي
أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي

الحلقة الثانية عشرة


أبو القاسم: عباس بن فِرْناس بن وَرْداس (274هـ = 887م)، وفِرْناس، تعني: (الشجاع والرئيس والأسد). أندلسي من البربر (سكان الشمال الإفريقي)، من كُورة (محافظة) تاكُرُنّا، ومدينتها (مركزها): رُنْدَة، جَنوبي الأندلس.

وُلِدَ في قرطبة أو انتقل إليها، وعاش فيها. نشأ في الرَّبَض (الحي) الغربي منها، ربما في حي الرُّصافة الشهير الذي فيه قصر الإمارة (المقتبس)، (2-2-227 235) والذي منه كان طيرانه الثاني والأخير.

نشأ بقرطبة، ونَبُلَ في جميع العلوم القديمة والمُحْدَثة، أَحْكَم لسان العرب وحذق صنعة الشعر الحسن، وفاق في علم الفلسفة والنجوم والهيئة، فصار صاحب نيرَنْجات (حِيَلٌ كالسحر، وليست منه) وألطافٌ وأسحار، تُحْمَل عنه في ذلك أنباءٌ وأخبار."(المقتبس، 1-2-242 و239).

الجو العلمي والدراسي :

كان التعليم في الأندلس متاحاً للجميع، لا يُحْرَم منه أحدٌ، نساءً ورجالاً، وفي سن مبكرة، علماً بأنه لم تكن هناك مدارس رسمية، هذا لا يأتي وَحْدَه، لكنه ثمرة لبناء المجتمع المسلم، على الإسلام عقيدة وشريعة. يتنافسون في طلبه لا يفتأون أو يَمَلون، جعلها العرفُ مفتوحة أبوابها، وللعلم بأنواعه، وأهلُه وأدواتُه متوافرة.

وكم آوت الأندلسُ من العلماء، من كل أنحاء العالم الإسلامي، بل تستدعيهم وتُكرمهم وتحسن استقبالهم، وقد يستقبلهم الأمير بنفسه، من أمثال أبي علي القالي اللغوي، 356هـ (نفح الطيب3-70- 75)، ومحمد بن موسى الرازي المؤرخ، 273هـ (نفح3-111)، وزرياب المغني230هـ (نفح،3-133122) وكان أقل الكرم المال، يغدقونه عليهم. يعقدون لهم الدروس ويفسحون المجالس، يقترحون عليهم الموضوعات، يحثونهم على التأليف فيها. فخير الغنائم هو العلم، وأنفق الأسواق أسواقه. والأمراء أنفسهم كانوا من العلماء والأدباء والشعراء، يجيدون فنونه، كفنون الحرب. يحمون العلماء، مما قد ينالهم ويعكر عليهم صفو أجوائهم، أو مما قد يقترفه أحدٌ، أذيةً لهم، أو من التحريض أو التشويش عليهم، أو رميهم بتقولٍ أو اتهام أو تَحَرّش. كل ذلك جرى في وقت جِدُّ مبكر.

دراسته وتعليمه المتنوع:


الذي يحيا في هذا الجو لا بد أن تكون له من الدوافع الذاتية المتنامية، تجعله يُسْرِع لارتياد مواقع المعرفة، أبوابُ التنافس فيها مفتوحة، تظهر الطاقات وتنمو المؤهلات، وتتسع المدارك. كل بما آتاه الله سبحانه وتعالى، من الفهم والإدراك والذكاء، الذي لم يَحْرِم منه أحداً ابتداءً. ثم يتولى هذا المجتمع النهوض به، في علوم تُقَدّم للإنسان نفعاً، وتمتنع عن أذاه.

وأساس التعليم للجميع هو التعليم الشرعي، ثم يكون التخصص، بما تقود إليه الميول المتنوعة، والفروق الفردية، والنوعية الذاتية، والأبواب ليست مفتوحة فحسب، بل تشجع وتنادي الجميع، والاستجابة متوفرة كلها، محفوفة بالبناء الشرعي، مما يجعل التعلق بها قائماً لا ينام ولا يتخلف أو يُسام.

في هذا الجو تعلم وفهم وتقدم عباس بن فِرْناس. وكغيره سار في سُلَّم التعليم المعهود، درب يسلكه الجميع رجالاً ونساءً، منذ نعومة الأظفار. درس القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه وعلوم اللغة والأدب والشعر، ثم واصل دراساته الأخرى بحضور حلقات العلم ومجالس العلماء، سيما في الجامعة القرطبية العتيدة الرشيدة، مسجد قرطبة الجامع، حلقاتُه خلايا نحلٍ، لا تفتر مجالسُها، في كافة التخصصات الشرعية والبحتة والاجتماعية.

كان ابن فرناس كذلك يتواصل مع أهل الصناعات الدقيقة وأهل الآلات الموسيقية والألحان والعلوم المتنوعة. كما درس ما يتعلق بالأحجار والأعشاب والنباتات. وصل إلى مراتب عالية مرموقة، غدا نجماً لامعاً في المجتمع الأندلسي، في وفرة من حقول المعرفة، حيث كانت مبتكراته.

حاز قصب السبق بين أهله وخاصته وميادينه. كان متقدماً متصدراً فيها، غدا أعجوبة الزمان شامخ البنيان مشاراً إليه بالبنان. حتى لقد وصفه أكبر مؤرخ أندلسي بأجمل النعوت. حَفِظ هذا المؤرخ الثقة الثبت المتقدم، جُلَّ إن لم يكن كل أخبار ابن فرناس، منه نقل الآخرون. وقد ظهر من كتابه أخيراً الجزء (السفر) الثاني (بقسميه) الذي كنا نبغ الجزءُ الذي يحتوي الكثير من الجديد مع القديم المعروف، نقلاً واعتماداً عليه، توثيقاً من أخبار عباس بن فرناس. ذلك هو ابن حيان القرطبي (469هـ =1076م) وكتابه "المُقْتَبِس في أخبار بلد الأندلس" ذو الأسفار (الأجزاء) العشرة (المفقود أكثرها). ظهر القسم الثاني من السفر الثاني أولاً، وبعده قريباً ظهر القسم الأول. كان الجميع يتمنى ظهوره، والحمد لله.

ومما جاء في وصف ابن فرناس شاعراً، أنه: "فَحْلُهم الخِنْديذ" (الخنديذ من الشعراء: الشاعر المَُجيد، الوافر المجد، المُنَقِّح)، و"الحكيم الشاعر"، و"كبير الجماعة" (المقتبس,2-2-227, 283, 338). كذلك: "وفي عصر الأمير الحكم نَجَمَ (ظهر) عباسُ بن فرناس، حكيمُ الأندلس، الزائدُ على جماعة علمائهم، بكثرة الأدوات والفنون". (المقتبس1-2-238 كذلك: نفح الطيب3-374).


القاضي الفاضل 07-07-2008 04:00 AM

المظلومون في تاريخنا
عباس بن فِرْناس.. معارفه وميادين ابتكاراته (2)

د. عبدالرحمن علي الحجي
أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي

الحلقة الثالثة عشرة

تنوعت الابتكارات وتجاوزت التوقعات. منها: قضية الطيران التي جرى الاقتصار عليها، مع شديد الأسف. لقد كان له باع وإبداع واختراع، في عديد من المبتدعات، تكفي واحدة منها لتجعله عالماً فذاً. كان في كل منها كالمتخصص فيها وَحْدَها، وحتى لو كان الأمرُ كذلك، لَوُضِع في صف المُبْدِعين الكبار الذين يُشارُ إليهم، أعلاماً في التاريخ الحضاري والإنساني. فكيف وقد ظهر في نحو اثني عشر ميداناً!

ولا أستبْعِد أن يكون ترك مؤلفاتٍ أو كتابات، فُقِدت أو أُحْرِقت أو نُهِبت، في النكبة الأندلسية الكبرى، بعد السقوط، أو لعلها موجودة في مكان ما، أو مأخوذة.

عَرَفَ ابنُ فرناس معارفَ كثيرة وعلوماً متنوعة ومبتكراتٍ زائدة، وأصبح من رواده المعتمدين وبز أقرانه المعروفين "كان عالماً مُفَنِّناً فيلسوفاً حاذقاً وشاعراً مُفْلِقاً (مُعْجِباً حاذقاً) ومنجماً مطبوعاً موفقاً، صحيح الخاطر، ثاقب الذهن، جيد الفكر، حسن الاختراع، كثير الإبداع".

لقد "أبدع طول أمده إبداعات لطيفة واختراعات عجيبة، في غير ما صناعة من جد وهزل، وكان مع ذلك مُجيداً للشعر حسنَ التصرف في طريقه، كثيرَ المحاسن، جم الفوائد، ذا خصال رائقة، وأخبار سارة". كما كان "صاحب نِيرَنْجات" (أُخَذٌ: حيل كالسحر، وليست)، كثير الإبداع والاختراع والتوليد والاستنباط واسع الحِيَل (ربما: الميكانيك) حتى إنه نُسب إليه السحرُ وعملُ الكيمياء" (المقتبس،1-2-238-243)، مما أثار بعضَهم عليه، حَسَداً أو جهلاً أو استغراباً.

الميادين التي ارتقاها وفاز فيها بالتقدم والتعين:

الطب: حتى غدا طبيبَ الأمراء، وأُسَرٍ قرطبية عدة.

الفيزياء: (الطبيعة) والرياضيات: متداخلة مع العديد من العلوم التي اشتغل بها.

الأدب: لا سيما الشعر: حيث كان يقوله في أغراض عدة، لاسيما: الوصف والمديح والهجاء.. كان يرتجله بانسياب وسهولة وحضور (نفح،3-133)، فكان من شعراء الأمراء، ابتداءً من الأمير الحكم وابنه الأمير عبدالرحمن الأوسط وابن الأوسط: الأمير محمد، وربما بداية إمارة ابنه المنذر (انظر: المقتبس، 1-2-241-242 المُغْرِب في حُلى المَغْرِب، 1-333).

الفلك: القبة السماوية: "صنع عباس ابن فرناس في بيته هيئة السماء، التي رَكَّبها على منهاج الحكمة، ومَثّلَ فيها أفلاكها، وأقام فيها آلات تُخيِّل إلى الناظر فيها أنها نجومٌ وغيومٌ وبروقٌ ورعودٌ، فأراها كثيراً من عيون الناس،مفتخراً عليهم، بحكمة شاع ذكرها في الناس وحديثهم عنها"(المقتبس،1-2-240).

الصناعة: "هو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة ودبرها بالحكمة"(المقتبس،1-2-238).

العَروض والموسيقى : كان أول من فك في الأندلس كتاب العَروض للخليل، وأول من فك فيه الموسيقى، وكشف غوامض الأشياء. وأول من فك العَروض ميزان الشعر وفهمها، وله فيه كتاب حَسَن بَلغ في تجويده الغاية.

ذات الحَلَق: وهي آلة تُمَثِّل حركة الكواكب، تستعمل لرصد هذه الكواكب السيارة. تتكون من عدة حلقات متداخلة، في وسطها كرة.

لقد عمل ابن فرناس هذه الآلة المخترعة العجيب، وقدمها للأمير عبدالرحمن الثاني (الأوسط) "وعمل عباس أيضاً من قبلُ (قبل المِنْقانَة) ذاتَ الحَلَق، للأمير عبدالرحمن بن الحكم، ورفعها إليه بها. (المقتبس،1-2-242. كذلك:2-2-283). (الحَلَق: جمع حَلْقة. الجُون: مفردها: الجَوْن، وهو الضوء).

رِجام المجانيق (المقتبس،2-2-357356): آلة حربية صنعها ابن فرناس، ربما هي نوع من الدبابات، يُهاجَم بها العدو. ربما ترمي عليه أذيً لا يمكنه رده، ولا يُمكنه نَيل مَن فيها مِن المُهاجمين، استعملها الأمير محمد، في قمع بعض الثائرين في قلعة الحَنَش، قرب مدينة مارِدة (شمال غرب قرطبة)، سنة 254هـ (868م)، وربما في غيرها".

قلم الحبر: وهي آلة أسطوانية تُغَذّى بالحبر، أشبه بالقلم الحالي.

النافورات الجميلة: كان ابن فرناس يقوم بإبداع أعمال ليُزَيّن بها الدور والحدائق والقصور، لا سيما للأُمراء، مهندساً مدنياً معمارياً.

ولقد "كان عباس بن فرناس الحكيم الشاعر لا يزال تَفْرُهُ (تحذق وتتقن) قريحته الحِكْمِيةُ، يخترع الطُّرَف الملوكية ويُوَلّد الطرف المعجبة، ذوات الصور الجميلة والحركات البديعة بتلونها وإفراغها المياه منها في البِرَك وغيرها، ويستعين في إقامة أشخاصها ومعالجة هندستها بأصبَغ عريف النجارين في القصر يعلمه عملَها... بصنعتها، فإذا تمت ونظر إليها الأمير محمد أُعْجِب بها وسر... عباس مخترعها، فأثابه على ذلك بما.." (المقتبس2-2-283، 284).

المنقانة (المنجانة = الميقاتة): وهي نوع من الساعات: "وهو الذي عَمِلَ بالأندلس المِنْقانة لمعرفة الأوقات، ورفعها إلى الأمير محمد حفيد الأمير الحكم، ونقش فيها أبياتاً من قوله، شعراً(جعل الكلام لها):
ألا إنني للدينِ خيرُ أداةِ
إذا غابَ عنكم وقتُ كُلِّ صلاةِ
لم تُرَ شمسٌ بالنهارِ ولم تَبِنْ
كواكبُ ليلٍ حالكِ الظلماتِ
بِيُمْنِ أمير المسلمين مُحمدٍ
تَجَلّتْ عن الأوقاتِ كُلُّ صَلاةِ
(المقتبس،2-2-282-289).

القاضي الفاضل 07-07-2008 04:01 AM

المظلومون في تاريخنا
عباس بن فِرْناس طار بلا مَطار .. حقيقة قصة طيرانه (3)

د. عبد الرحمن علي الحجي
أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي

الحلقة الرابعة عشرة


ونأتي إلى قصة طيرانه، أول محاولة طيران عملية ناجحة في التاريخ الحضاري والإنساني، وجرت بعده بنحو قرن وربع لأبي نصر إسماعيل بن حَمّاد الجوهري (393هـ=1003م)، في مدينة نيسابور. ولم تكن مدروسة على ما يبدو، وإنما كانت كيفما اتفق، فكان فيها حتفه في الحال (سير أعلام النبلاء،17-8 82 تاريخ الأدب العربي،3-617615 الأعلام،1-313)، كما ذُكِرَت محاولة أخرى جرت في مدينة القسطنطينية سنة 1100م.

لابد أن عباس بن فرناس قد أفاد من جُلّ تلك العلوم التي أتقنها، وأنفق جُهْداً ووقتاً في حيازتها، حتى تهيأت له إمكانية القيام بهذه التجربة، ليطير في الجو مسافة، وبارتفاع غير قليل، ولقد جرت وتجري دراسات لمعرفة كيف تم له ذلك. فلقد تكلف العالم البريطاني روجر بيكون (نحو 1220 1292م) درا سة ما قام به ابن فرناس، للتعرف على كيفية وفهم محاولته، وهو الذي جاء بعد ابن فرناس بأربعة قرون، وكانت العلوم الإسلامية مصدره الوحيد، إلى جانب ما يذكر أنه زار قرطبة ودرس فيها.. كتب في علوم عدة، منها البصريات، التي اعتمد فيها على ابن الهيثم، بشكل كلي.

يُذكر أن بيكون ترجم في قرطبة العديد من المخطوطات العربية، منها تلك التي دُوِّنت فيها قضية تجربة الطيران الفرناسية، للتعرف على الأدوات والآلات التي اعتمدها ابن فرناس، في تلك المحاولة الناجحة الفذة، وربما من بينها دراسات ومؤلفات دَوَّن فيها ابن فرناس كل ذلك، وقد تكون فيها مخططات ذلك كله، التي يبدو أنها قادت إلى اختراع ما عُرِفَ بالأورنيثوبتر جهاز بدون محرك وبجناحين، مما يشبه الطائرة.

ربما ليكون قريباً، أو على نسقه، ذلك الذي عمله العالم الإيطالي الشهير ليوناردو دافينشي البيزي (من مدينة بيزا) (1452-1519 A. D.) والذي جاء بعد ابن فرناس بما يزيد على ستة قرون. وكان قد ذهب إلى البلاد العربية، وتعلم لغتها، وترجم بعض كتبها. ولا أستبْعِدُ أبداً أنه نقل من مخطوطاتها، التي قد يكون جلب معه بعضها، ثم أودعها مكتبة الفاتيكان الغنية بالمخطوطات العربية، وذلك أنه لم يظهر في أوروبا، قبل القرن الخامس عشر للميلاد، عالِم لم يقتصر على استنساخ كتب العرب.

وعلى كتب العرب وحدَها عَوَّل روجر بيكن وليونارد البيزي وأرنود الفيلنوفي وريمون لول وسان توما وألبرت الكبير والأذفونش العاشر القَشْتالي، إلخ (حضارة العرب،568). حتى لقد أحصى أحد الدارسين الأوربيين (لكلير) الكتب التي ترجمت من العربية إلى اللاتينية في القرنين 1312م، في بعض العلوم، فكانت نحو 300 كتاب (حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي،524).

إذن ربما استمرت المحاولات ومتابعة التجارب وبذل المجهودات المتوالية، التي قادت إلى نجاح المهندس الفرنسي كليمن آدر (1925 A.D.) كي يجهز آلة لأول مرة، ثم يطير بها، سنة 1890م.

ثم ليقود ذلك فيما بعد الأخوين الأمريكيين: رايت، ويلبور (1912م) وأورفيل (1948م) إلى أن يصنعا أول طائرة ذات محرك، وطارا بها سنة 1903م، ليبدأ بعدها العصر الجديد للطيران.

وطيرانه حَدَثَ مرتين على ما يقال الأولى يوم كان كهلاً، حيث قفز من أعلى مئذنة مسجد قرطبة الجامع القديمة، التي كان ارتفاعها عشرات الأمتار، والتي هدمها سنة 340هـ (951م) الخليفةُ الأندلسي عبدُ الرحمن (الثالث) الناصرُ لدين الله، ليقيم مئذنة جديدة بديلاً عنها، وهي الباقية إلى اليوم، والتي يبلغ ارتفاعها نحو خمسة وأربعين متراً.

ثم بعد ذلك بعدة سنوات، قام بالمحاولة الثانية والأخيرة، وذُكِرَ أنه تأذى بمقدار. قيل إن ذلك، بسبب ما فاته، إذ لم يعمل لنفسه كذيل الطائر، الذي به ينزل على الأرض، مقاومةً لجاذبية الأرض، ومعلوم أنه لم يحدث البتة أن مؤرخاً أنكر تلك المحاولة، في أي وقت.

وبناءً على واقعية المحاولة اهتم الغرب بهذه الريادة، وعمل علماؤه على اقتفائها والبناء عليها، "وذَكَرَ بعضُ المشيخة، أنه احتال (رتب حاله) في تطيير جثمانه، فكسا نفسَه الريشَ على سَرَق الحرير، ومَدّ لنفسه جناحين على وزن تقدير قَدَّره، فتهيأ ( فَتَمّ) له أن استطار في الجو، فطار من ناحية الرُّصافةَ، واستقلَّ في الهواء، فحلَّق فيه حتى وقع من مكان مطاره على مسافة بعيدة، وساء على ذلك موقعه لما تأذَّى في عَجْبِ ذَنَبه، إذ لم يُحْسِن الاحتيال في وقوعه، ولم يُقَدّر أن الطائر إنما يقع على زِمِكّاه، فَلَهَا عن ذلك. وقد كان أفزعَ مَنْ عاين مطارَه مِنْ أهل الصحراء، فكثر تحدُّثُهم عَمَّا عايَنوا منه ولا يَعلمون شأنَه. (المقتبس،1-2-240239، نفح الطيب،3-374). (العَجْب: أصل الذيل، زِمِكّاه: مثنى زِمِكّ: منبت ذيل الطائر، لَهَا: غَفَل، يَطُمّ: يعلو، العنقاء: طائر متوهَم، قشعم: النسر المسن).

لا يبدو أن ابنَ فِرناس فاته اقتفاء التزود بذنب كالطائر، لكن الذي يبدو إن صح تعليلهم أن المادة التي كانت تمسك بالمؤخرة ذابت أو تبددت أو سقطت.

لا بُدَّ من وقفةٍ هنا لمحاولة معرفة تاريخ حدوث طيرانه هذا، ولو بالتقريب، وهو ما لم يُذْكَر عنه شيءٌ أبداً، لقد سخر الشاعر مؤمن بن سعيد من مسألة طيران ابن فرناس في أبيات شعرية، وهذا الشاعر توفى في (الثلاثاء4 رجب 267هـ)، بعد سجن نحو سنتين، لمضيه في الهجاء. هذا يعني أن مؤمن بن سعيد كان طليقاً نحو سنة 265هـ (المُغْرِب في حُلى المَغْرِب،1-133132). فيكون هذا الشاعر قد وجه سخريته من ابن فرناس قبل هذا التاريخ، وأُقَدّرها نحو سنة 260هـ (873 874م)، وإذا كانت لابن فرناس محاولة واحدة فيكون هذا بعد الثانية، وإلاّ فهي الوحيدة، وهذا تاريخها التقريبي.

المصدر : مجلة المجتمع.



 

جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الخليج - © Kleej.com

( 2007 - 2025 )


جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر العضو نفسه ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى